تناذر "الطفل المضطهد" من الاستبداد إلى الحروب 

2018.11.21 | 00:11 دمشق

+A
حجم الخط
-A

عندما سمعت للمرة الأولى بتناذر "الطفل المضطهد" أثناء دراستي الطب، في قسم أمراض الأطفال، استهجنت التسمية واعتبرتها نوعًا من المبالغة، لكن الممارسة العملية والاحتكاك المستمر مع المرضى ومن خلال تجارب الحياة، تبين أن الحالة ليست نادرة، بل هي شائعة جدًا، حتى في مجتمعاتنا التي يُقال بأن هذا التناذر إحصائيًا نسبته أقل فيها من تلك التي في الدول الصناعية أو المجتمعات الغربية التي لها مشاكلها النفسية على الصعيد الفردي وعلى الصعيد المجتمعي، لكن الفرق أولاً أن الدراسة والإحصاء وإنتاج المعرفة والبحوث في مختلف الميادين كلها تكاد تكون معدومة أو بالحد الأدنى في بلداننا، عدا الكثير من المفاهيم الغائبة أو المغيبة أو المهملة حدّ عدم الالتفات إلى انتهاكها، ومنها حقوق الطفل.

وقبل الدخول في مفهوم حقوق الطفل لا بد من الإشارة إلى أن متلازمة الطفل المضطهد تشير إلى مجموعة من الأعراض والإصابات الناجمة عن ممارسة العنف بحق الأطفال قد يصل في بعض حالاته إلى أن يكون سبب الوفاة لدى الأطفال.

يصادف في العشرين من هذا الشهر نوفمبر/ تشرين الثاني اليوم العالمي لحقوق الطفل، إذ تم التوقيع على المعاهدة الدولية التي تقر حقوق الطفل كإحدى اتفاقيات حقوق الإنسان من قبل عدد كبير من الدول في العالم ومنها الدول العربية التي تحفظ معظمها على بند الاعتقاد. أهم هذه الحقوق هي حق الحياة والصحة والتعليم واللعب، وكذلك الحق في حياة أسرية تغمرُها السعادة والمرح والتفاهم والحب لا الكراهية والعنف، فلا بد أن يتم إعداد الطفل الإعداد الكامل والتربية على القيم والمبادئ العليا والمثل الطيبة، وتنشئته على المساواة والحب والتسامح والكرامة. وتجب حمايته من العنف، وعدم التمييز، والاستماع إلى رأيه. 

حقوق الطفل في مجتمعنا السوري كانت منتهكة مثلما هي حقوق المواطنين جميعها

بالنسبة لحقوق الطفل في مجتمعنا السوري كانت منتهكة مثلما هي حقوق المواطنين جميعها، بل أكثر من ذلك، لأن الأطفال يعتبرون من الشرائح الاجتماعية الأضعف وبالتالي يمارس بحقها كل أنواع الاضطهاد والتمييز، ابتداء من البيت وصولاً إلى المدرسة. يكفي أن يكون معدل الإنجاب لدى الأسرة السورية عاليًا، وبالتالي عدد الأطفال فيها، حتى تكون القدرة على تأمين الحد الأدنى من الحقوق لكل طفل شبه معدومة فيما لو توفرت النية والدراية والإقرار بأن للطفل حقوقًا، في ظل تردي دخل الفرد في سوريا.

أما من الناحية التربوية فإن الثقافة العامة متناغمة مع جو الاستبداد السياسي والديني والاجتماعي فإنها تقوم على العقاب كأساس للتربية القويمة، العقاب الذي يتدرج في مستوى العنف حتى يصل إلى حدود غير مسبوقة، من أذى جسدي ومعنوي ونفسي تميت لدى الطفل الإحساس بذاته وينمو ويكبر مكسور النفس غير واثق بمقدراته وغير قادر على اتخاذ القرار. 

الطفل في سوريا منذ بداية تعليمه وتكوين منظومة وعيه وتشكيل شخصيته، تمارس المدرسة والمؤسسات التعليمية دورها التربوي على الأسس الشمولية القائمة على القمع والعنف والتمييز، ومحو شخصية الطفل، فمنذ البداية يتعلم الطفل أنه عدد ضمن قطيع كبير اسمه طلائع البعث أو شبيبة الثورة، وأن هناك لباسًا مدرسيًا عليه ارتداؤه ليصبح صورة عن غيره وغيره صورة عنه حد التطابق، ويتعلم التلقين والتلقي بحسب الأسلوب التربوي والتعليمي المتبع، وكلما تدرج في المراحل التعليمية تقلصت القدرة الإبداعية لديه وتراجعت وظيفة التفكير والمقارنة ليصبح همه الوحيد حفظ المعلومات التي تقدمها المؤسسة التعليمية عن ظهر غيب من أجل أن تمتحن ذاكرته ليس أكثر ويحصل على علامة النجاح، ولا يمكن إغفال الطريقة التربوية المتبعة غالبًا في المدارس القائمة على التعنيف والتحقير.

في البيت ليس الوضع أفضل بكثير، فالأسرة التي ترزح تحت ضغط المعيشة، والتي يكون فيها الآباء يعانون بطريقة أخرى من الخوف في ظل نظام قمعي ويكابدون شظف العيش وضيق الحال وتقلص إمكانية الاختيار أو القرار حتى في إدارة حياتهم الخاصة فهؤلاء الآباء غير قادرين على تأمين حقوق الطفل ورعايتها، فيما لو كانوا يدركون معناها وضرورتها، فكيف وهم ينتمون إلى ثقافة سلطوية متأصلة قائمة على العقاب في الدرجة الأولى والترهيب من الآخرة فيما لو أخل الطفل بالوصايا المنزلة المرتبطة بمنظومة قيم معظمها قائم على مفهوم الطاعة حدّ العبودية، وما يزيد في تكريسها ورهبتها إسنادها إلى الدين وربطها بالمقدس ويوم الحساب. 

سوريون قفزوا من عتبة الطفولة إلى الكهولة دفعة واحدة

بعد ثماني سنوات على الحرب السورية، يمكن التكهن بعدد السوريين الذين لم يمروا بمرحلة الطفولة، سوريون قفزوا من عتبة الطفولة إلى الكهولة دفعة واحدة، وربما إلى الشيخوخة والعجز. الطفولة التي بحسب منظمة اليونسف تمتد حتى سن الثامنة عشرة، السن التي قبلها تعاني غالبية أطفال سورية من تناذر الطفل المضطهد، الطفل الذي يمارس بحقه كل أشكال القسوة والعنف والحرمان التي زادتها ظروف الحرب شدة وشراسة وقسوة، دفعت بالكثير من أطفال سوريا من المهد إلى حمل السلاح أو الضياع في تغريبة ربما لم يشهد التاريخ مثلها. 

لقد دعت منظمة اليونسيف العالم للاحتفال بيوم الطفل باللون الأزرق من خلال مواقع السوشيال ميديا، ولفت النظر إلى حقوق الأطفال وضرورة تمتعهم بالحياة الكريمة، وتوفير جو من السعادة والحب والأمان، فهي منظمة عالمية ترى أن الأطفال منتهكو الحقوق ومحرومون. هل هذه المنظمة ذات الأهداف النبيلة، والعالم كله لم يسمعوا بأطفال سوريا؟ وأطفال اليمن؟ وأطفال الدول الفقيرة المستغلة منتهكة الحقوق؟ فضاء أطفال سوريا واليمن مزيج من الأحمر والأسود، من رائحة الدم والبارود، سوريا خسرت أطفالها مثلما خسرت شبابها، فأي مستقبل ينتظرها؟ هل يصنع المضطهدون مستقبلاً؟ تناذر الطفل المضطهد وباء مستوطن في هذه البلاد المنكوبة، فهل سمعت منظمة الصحة العالمية بهذا الوباء؟ أم إن قوانين الحرب تضع المشكلة بين قوسين وتدفع إلى هامش جدول أعمالها؟ أي دور تقوم به تلك المنظمات وأي مهزلة هي الاتفاقيات والمعاهدات التي تبرمها إذا لم تكن ملزمة وإذا لم تكن جرس إنذار يردع نزعات الجبابرة المتحكمين بأمن العالم وحياة البشرية ويوقفها عند حدها؟