مراجعة الذات والتحضير للتفاهم في المستقبل

2020.02.11 | 18:45 دمشق

syria_2_337413_highres.jpg
+A
حجم الخط
-A

بعد تسع سنوات من الحرب السورية، وما آلت إليه الأمور بعكس المرجو وفوق التوقعات ودون مستوى الأحلام ونزاهتها، وبعد أن دفع شعب سوريا المنكوب أثمانًا باهظة بمجرد أن انتفض على واقعه ونادى بالحرية والكرامة، فإن من الجدير بكل إنسان سوري أن يسأل نفسه ثم ماذا؟ وبعد السؤال حريّ به أن يقف وقفة مراجعة للذات وإعادة تقويم لتصوره ومواقفه عمّا جرى منذ انطلاق أول تظاهرة في سوريا إلى اليوم، بعد أن صار نصف الشعب مهجّرًا ومن بقي يعاني من حصار حياته بكل ما تعني الكلمة من معنى جامد، وبعد أن قتل مئات الآلاف من هذا الشعب في حرب لا بدّ أن تدخل التاريخ بجدارة، وبعد أن صارت سوريا عبرة على الألسنة، فكيف بالمثقف؟

يقول الكاتب النمساوي شتيفان تسفايغ: ما أرويه في واقع الأمر ليس مجرى قدري الخاص، بقدر ما هو قدر جيل كامل، جيل عصرنا الذي أثقله عبء مصير قلّما أثقل جيلاً آخر في سياق التاريخ. فكل واحد منّا، حتى أصغرنا، وأقلّنا شأنًا، قد هزّت أعماق وجوده انفجارات بركانية متواصلة تقريبًا في أرضنا الأوروبية. فماذا يقول السوريون في حالة مشابهة، حيث هزت الانفجارات البركانية أرضهم فدفعتهم إلى حمل السلاح في وجه بعضهم البعض بدلاً من أن يكونوا معًا في وجه الطغيان والتدخل في شؤون البلاد وجرّها إلى حرب ساهمت فيها قوى عالمية وإقليمية، وصارت ميدانًا لتصفية الحسابات بواسطة أبنائها؟ هذا لم يعد قدر جيل، بل قدر أجيال لا يمكن التكهن بأجل قريب يمكن أن نقول معه إن البلاد نهضت والمجتمع أعاد بناء نفسه وفق أسس صحيحة والشعب أمسك مصيره وباشر في بناء الوطن والدولة.

صحيح أن تسفايغ أنهى حياته بسبب خيبته المريرة مما آلت إليه الأمة الأوروبية بعد حربين قضى خلالها الملايين، ومات قبل أن يرى نهاية الحرب الثانية، لكنه حاول قبل ذلك أن يضطلع بدوره كمثقف ويتحمل مسؤولية أخلاقية في وجه الحرب، فالحروب كلها خسيسة، وكلها تعيش على الكراهية. وفي لقاء بينه وبين الشاعر الفرنسي رومان رولان، قال له رولان لقد حان الوقت للتنبه، والتنبه المتزايد، إن قوى الكراهية والعدوان أقوى، لاتّضاع طبيعتهما، من قوى الوفاق، ومن الواضح أن الظلامية ناشطة. كان هذا الحديث في العام 1913، قبل اندلاع الحرب، مثلما لو أنه كان يدق ناقوس الخطر، فعندما تتوفر

الحرب ليست الطريق إلى العدالة والسلام الدائم، فهي لا تجلب غير الإفقار بدلاً من العيش الكريم، والمرارة بدلاً من الاطمئنان، والمجاعة والتضخم النقدي وانهيار المؤسسات والدولة والعيش القلق والكراهية والشك

المقدمات ويكون هناك من ينتبه إليها ويقرأ الواقع ويتنبأ بنتائجها، لا بد أن يحاول دق ناقوس الخطر. بالنسبة لنا في سوريا لا أعرف لماذا كان معظمنا يستبعد هذا الاحتمال بالرغم من أن بعض المثقفين تناولوا هذا الواقع وتابعوه وقدموا الأطروحات والدراسات ودفع بعض منهم أثمان الرأي باهظة، حول فداحة الواقع وسطوع المقدمات التي كان لا بد بسببها أن تصل البلاد إلى ما وصلت إليه، ومع هذا فإن الشعب السوري فاجأ نفسه مرتين، الأولى عندما انتفض بعدما كان يعيش في استنقاع مميت لم يكن معه يستطيع أن يحلم بأنه يمكن أن ينتفض، والمرة الثانية فاجأ نفسه بالواقع الذي فاق التصور من هشاشة البنيان المجتمعي وسرعة الانزلاق إلى العنف والكراهية وسهولة الاقتتال فيما بينه. الحرب ليست الطريق إلى العدالة والسلام الدائم، فهي لا تجلب غير الإفقار بدلاً من العيش الكريم، والمرارة بدلاً من الاطمئنان، والمجاعة والتضخم النقدي وانهيار المؤسسات والدولة والعيش القلق والكراهية والشك وعدم القدرة على التشارك في الوطن، الحرب التي تتغذى على الكراهية وترقص للعنف وتفرح للدمار لن تكون نتائجها، مهما كانت الادعاءات بوجوبها ومبرراتها، إلاّ وبالاً على الشعوب. إذا كانت تجارب التاريخ القريبة والبعيدة غائبة عن بعض العقول، أو تجهلها غالبية الناس، فإن الواقع الحالي يقدم الدلائل والبراهين كل لحظة على عدمية الحرب، عن جبروتها النهم الذي يزداد كجهنم ويقول هل من مزيد؟

يقول تسفايغ: أهم عمل في الحرب، التحضير للتفاهم في المستقبل. قد يبدو هذا الكلام تنظيرًا مجانيًا في الوقت السوري الحالي، لكن بالنظر إلى الواقع والحرب التي ما زالت تستعر، وفداحة الخسارات التي منيت بها سوريا وشعبها، وعدمية الحرب كما أسلفت، فإن الكلام هذا لا يعود تنظيرًا، بل مطلبًا صار كل السوريين بأمس الحاجة إليه. والتحضير يبدأ من مراجعة المواقف لأن المتغيرات التي طرأت على الحالة السورية كبيرة والزاوية واسعة بين البداية منذ تسع سنوات واليوم، حتى المطالب التي هبّ الناس يطالبون بها صار هناك ما هو بأهميتها. النخب الثقافية مطالبة قبل غيرها بمراجعة الذات، والتلاقي فيما بينها على مشتركات ليس من أخلاق المثقف تجاهلها أو تخطيها، بالرغم من أن بعض المثقفين كغيرهم انزلقوا إلى الاصطفافات السياسية، وإذا غفر الانزلاق لعامة الناس فإن المثقف لا يغفر له. فإذا كان المثقف مؤمنًا بالإنسانية ومناهضًا للحرب وداعيًا إلى السلم، عليه قبل كل شيء أن يحدد موقعه المفترض به أن يكون في الأماكن التي تلقّت أعتى الضربات والزلازل، الأماكن التي انتهكت فيها الإنسانية بأبشع الصور، ومن قبل كل الفرقاء المتحاربين، ما من طرف من الأطراف المتحاربة لم يمارس القتل والبلطجة والاعتقال والمتاجرة بحياة الناس وأرزاقهم وانتهاك حرياتهم بل ومصادرتها، وليس الشعب بالمجمل موزعًا على ولاءات، بل هناك أمر واقع في كل مكان حيث يعيش الناس، فرضته الحرب وانعدام الخيارات أمام قسم كبير منهم، وهذا لا يعني بالطبع أنهم موالون لسياسة الجهة المسيطرة أو موافقون على ما يحدث وعلى الخطط التي تسير عليها الأمور.

إن محاولة كل طرف إطلاق أحكام قيمة على الطرف الآخر بالمجمل وكأن كل الشرائح الواقعة تحت سيطرته على قلب واحد، ونزع كل قيمة أخلاقية أو ثقافية عنه أمر لا يؤدي بالنتيجة إلاّ إلى مزيد من الشقاق وإضرام الخلاف والاقتتال. لا بدّ من التلاقي عند نقطة ما لأجل القضايا الإنسانية المحقة والملحّة، وهذا التلاقي آن له أن يحدث فقد تأخر كثيرًا، عندما تتلاقى النخب وتضع نصب أعينها مشروعًا وطنيًا تكون قادرة على مخاطبة وعي الناس وضمائرهم به فإن كل المزاعم الأخرى سوف تسقط، وكل المعاني التي شوهتها الحرب سوف تعود إليها روحها، ليس من الوطنية بشيء أن يقتل السوري أخاه السوري بحجة الإرهاب، وليس من العقيدة والإيمان بشيء أن يقتل بالمقابل أخاه السوري بحجة المروق من الدين وتطبيق الحد فيه من أجل إقامة حكم الشريعة. كل هذه الادعاءات والشعارات التي لعبت بوجدان السوريين وأضرمت الفتنة بينهم يجب العمل على تفتيتها وتأسيس وعي جديد، صحيح أن فاتورة الدم باهظة وأن الدم له ذاكرة مديدة، لكن عندما يوضح للناس معنى أن يكون هناك وطن سليم لا يمكن بناؤه من دون مساهمة الجميع به، وأن للجميع حقوقهم ونصيبهم منه، وأن العدالة سوف تحاسب المرتكب، وما هي العدالة الانتقالية، عندها يمكن الاعتماد على قيم التسامح والغفران من أجل بناء المستقبل. مرة ثانية البداية بيد المثقفين، ولا تكون البداية قبل أن يتخلص من تورط منهم بفكرة أن الحرب هي "حمام من فولاذ" يصون قوة الشعب من الوهن. الحرب حمام من الفولاذ، لكنه يحرق البشر والشجر والحجر، ولا يبقى من الأوطان غير الحجارة التي يتقاذف بها أبناء الشعب الباقون بما أورثتهم الحرب من نزعات الثأر والكراهية والانتقام.