إذا لم يبقَ مجتمع فعلى ماذا نراهن؟

2020.01.21 | 23:14 دمشق

altbqt.jpg
+A
حجم الخط
-A

وقع تحت نظري مقطع فيديو يصور مشهدًا مؤثرًا، يبدو أنه مصور في منطقة من تلك البلدان المقهورة الفقيرة الواقعة تحت أطماع واستغلال العالم، بلد إفريقي مثلما يبدو من لون بشرة الأطراف التي تظهر في المقطع الذي يصور إسكافيًا ليس لديه محل ليمارس مهنته، بل يقوم بصنع الأحذية في الخارج مفترشًا الأرض، كل عدّته لا تتجاوز المشرط القادر على قطع الكاوتشوك الذي تصنع منه العجلات، وشاكوش ومسامير، لكنه مبدع وحرفي ماهر، تمتد أمامه قدم تبدو أنثوية تدوس على قطعة من الكاوتشوك مقصوصة من إطار عجلة سيارة، يرسم حدود قدمها عليها ثم يعمل مشرطه بها فيفصل النعل. بعدها يقص أشرطة يصنع منها الوجه الخارجي الذي يمسك القدم، تجرّب القدم مقاس الحذاء قبل أن يثبت الأشرطة بالمسامير، ثم يثبتها ويبدأ بنحت حواف الصندل حتى يأخذ شكله النهائي، فيبدأ باللمسات الأخيرة، قطع رؤوس المسامير وجعلها بمستوى الكاوتشوك ويصبح الصندل جاهزًا لتفرح به صاحبته.

يقال الحاجة أم الاختراع، فكيف يصح أن يحتاج المرء إلى مقومات حياته الأساسية وحقوقه البديهية، في بلاد فيها من الخيرات ما يكفي أبناءها ليعيشوا مرفهين ويبدعوا ويرفدوا الحضارة الإنسانية؟ مشهد مؤثر استجرّ معه إلى ساحة وعيي حالة السوريين في سنوات الحرب، حياتهم في المخيمات، في بلدان اللجوء، حتى في الداخل وهم يعانون مع كل يوم في عمر المحرقة السورية ضنك عيش جديد، حتى اقتربوا أو بالأحرى صاروا في قلب الجوع. شاهدنا كثيرًا من الإبداعات السورية في مناطق الحصار، وفي المناطق الأخرى أيضًا، عندما انعدمت وسائل التدفئة، وعندما اشتد الحرّ والكهرباء غير متوفرة كيف لاقى بعض السوريين بدائل جعلت حياتهم مقبولة، وهذا نوع من أنواع التأقلم السلبي، التأقلم الذي يتجرع فيه الإنسان تدني ظروف حياته بالتدريج، فتصبح المسافة شاسعة بين ماضيه وحاضره من دون أن ينتبه إلى التردي الفظيع الذي طرأ على حياته، وهذا موت بطيء، يشبه تجربة الضفدع الذي وضعوه في مرجل ماء يغلي فقفز ونجا بحياته، لكنهم عندما وضعوه في ماء بارد وراحوا يسخنونه بالتدريج، وصل الماء إلى الغليان فسلق الضفدع وخسر حياته.

تسع سنوات من الجحيم عاشه السوريون فخسروا حياتهم وحاضرهم ومستقبلهم ومستقبل أبنائهم، وصاروا عبرة بدلاً من أن يطمحوا ليكونوا مضرب مثل، في الحقيقة لم يكونوا على قلب واحد، حتى القلوب العديدة التي توزعوا عليها طالتها الفرقة والشقاق، واليوم، والشعب برمته ينحدر إلى الجوع الحقيقي، يزداد الشقاق وتضطرم العداوات وتتشفى النفوس من بعضها بعضاً، عزيز النفس لا يشمت بالضعيف، وهذه النزعة، الشماتة، على ما يبدو كانت تستبطن وجدان غالبية السوريين، ككثير غيرها، ولقد ظهرت باكرًا في عمر الحراك ثم الحرب، لعل أكبر الانهيارات وأكثرها عِظَماً لآثارها الراهنة والمستقبلية هو انحدار القيم والأخلاق الذي عززته الحرب وأخذت المراحل الجديدة الناجمة عنها تفرز منظومتها القيمية الخاصة، المنظومة التي تُرسّخ الذرائعية ومبدأ الغاية تبرر الوسيلة، حتى لو كانت الوسيلة القتل والتشريد والتجويع، وصارت هناك أخلاقيات توفر تربة خصبة لمجتمع مريض لا يمكن أن يبدع في مجال يخدم الإنسانية، إنها كارثة حقيقية. حتى عندما خرج الناس في مدينة السويداء السورية وفي شهبا في انتفاضة تصرخ صرخة الجوع والرغيف، راح بعض السوريين يشمتون بهم أو يتهكمون عليهم، بالرغم من وجعهم العميق. هي احتجاجات مطلبية في عنوانها العريض، احتجاج على الجوع، فهل هناك أقسى من الجوع على كرامة الإنسان؟

ما يظهر من مواقف شرائح الشعب السوري وفئاته بعضها ضد البعض الآخر ليس غريبًا بعدما أظهرت سنوات الحرب هشاشة بنيته المجتمعية

إن ما يظهر من مواقف شرائح الشعب السوري وفئاته بعضها ضد البعض الآخر ليس غريبًا بعدما أظهرت سنوات الحرب هشاشة بنيته المجتمعية، وكيف نجح التجييش والحشد في انقسامه وتفتيته، حتى صار في البيت الواحد إخوة متخاصمون، وصار مشهد أشلاء الأطفال والجثث الطافية في البحار والمحيطات، وقوافل الهائمين على وجوههم هاربين من الموت المحقق إلى موت مؤجل، في البرد والصقيع والأعاصير والهجير، لا يحرك ساكنًا، وبعد أن صار الفرد يتناول وجبته أمام هذه المشاهد وقد تأقلم معها وصارت مثل برنامج عادي.

هل هو الموت السريري؟ أم هو اليأس في أقصى درجاته، حدّ السأم واللا مبالاة؟ سنوات تسع من القتل والدمار لم يبقَ معها وطن، وصارت الرايات والأعلام بمختلف الألوان ترفرف في سماء هذه الأرض، ولمّا تنته الحرب بعد، ومع هذا لم يتعلم السوريون من تجربتهم المريرة، لم يعرفوا أنهم عندما يجتمعون على قلب واحد يمكن أن يظفروا بالحياة والكرامة، ويمكن أن يبنوا وطنًا من رماد ما كان،

سورية الخيّرة التي كان الناس يشترون فيها الخضار والفواكه الموسمية من سوق الخضار بالصناديق، صار بائعوها، اليوم، يستخدمون الموازين الرقمية التي تقارب دقتها موازين الذهب، وصار المواطن يحسب كم لقمةً يمكنه أن يقدم لكل ولد من أولاده، بل إنه صار يحسب الرغيف على كم لقمة يمكن أن يقسمه بعد أن صار للفقر أنياب تعض وتوجع وتدمي القلوب، فأي ذل وأي عار ما نحن فيه؟ أي عار أن نصبح عبرة يتداولها الناس، حتى صار المجتمع الدولي يتخوف من أن تتحول ليبيا إلى "سوريا جديدة"؟

صحيح أن الحاجة أم الاختراع، لكن ليست الاختراعات الفردية التي تحل مشكلة ذاتية هي التي تبني مجتمعًا ودولة، إن الشعوب تتعلم من تجاربها وتضع خططًا لمستقبلها فتكون اختراعاتها من قلب الحاجة منتجة وجامعة، عندما صمتت المدافع وانتهت الحرب العالمية الثانية كانت ألمانيا بلدًا مدمرًا منهار الاقتصاد والبنيان، استطاعوا أن يخترعوا حياتهم خطوة فخطوة من قلب حاجاتهم القاهرة، لقد استخدموا فوارغ القذائف من أجل الطبخ ليأكلوا وهم يرفعون الركام وردم الأحجار التي خلفتها الحرب، اخترعوا حياة تلبي حاجة البشر كمرحلة انتقالية في طريق بناء مستقبلهم، لكنهم كانوا يريدون بناء وطن، وطن جامع لأبنائه لكل فرد مكانه ونصيبه وواجبه. إذا لم يبق مجتمع فعلى ماذا نراهن؟ من سيبني دولة ومؤسسات؟ من سيحمي مفهوم الوطن والمواطنة؟ بل من يستطيع أن يضمن المستقبل؟ لا شفاء لنا ولا قيامة من دون وقفة مع الذات والضمير، ومن دون نقد ذاتي موجع فكلنا أخطأنا.