لغتنا الجميلة هل ستبقى جميلة؟

2019.12.17 | 17:40 دمشق

images_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

تحيي منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو" منذ العام 2012 في اليوم الثامن عشر من كانون الأول/ ديسمبر اليوم العالمي للغة العربية بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1973، أما الاحتفال لهذا العام فيحمل شعار: الذكاء الاصطناعي واللغة العربية. إذ لا تزال التجارب والمحاولات قائمة من أجل معرفة مدى قدرة الذكاء الاصطناعي على التعامل مع اللغة العربية بلهجاتها المتعددة التي ما زلنا، نحن العرب، نعاني من التقصير في فهم بعضنا البعض باستعمالها، بل أحيانًا كثيرة نحتاج إلى مترجم بيننا حتى في البلد الواحد، وهذه النقطة نلمسها أكثر في مجال السينما والتلفزيون، من الأمثلة التي تخطر على البال مسلسل ضيعة ضايعة الذي كانت الترجمة في بعض الحوارات تظهر على الشاشة لأنها مفردات أو لهجات عامية لكنها متجذرة في خصوصيتها. كما أن هناك أفلامًا باللهجة الدارجة لدول المغرب العربي مثلاً تتم ترجمتها إلى الفصحى كي يستطيع فهمها باقي المتابعين في المنطقة العربية. ومحاولات الدارسين والمنشغلين بهذا الأمر ليست وليدة هذا العام أو العام الفائت، بل إنها ترجع إلى سنوات عديدة خلت، فأين المشكلة أو العقبة التي تواجه هذه المحاولات وينجم عنها بالتالي الفشل في رقمنة اللغة العربية؟ هل الذكاء الصنعي الذي استطاع أن يتعامل مع العديد من اللغات هو المسؤول، أم لغتنا "الجميلة" هي المسؤولة؟

صحيح أنها لغة غنية بمفرداتها وفيها بحسب الدراسة أكثر من اثني عشر مليون كلمة، ويتحدث بها ما ينوف عن أربعمئة مليون شخص، ويستخدمها أكثر من مليار ونصف المليار من المسلمين في العالم لأداء طقوسهم وشعائرهم الدينية، من صلاة أو ترتيل القرآن وغيرها، إلا أنها منذ عقود انحدرت إلى حالة الركود والاستنقاع والتراجع عن دورها الحضاري كما كانت عليه في زمن كانت الحضارة العربية فيه فاعلة ومؤثرة في الحضارة الإنسانية.

اللغة هي أداة تعبير، وسيلة نقدم بها أفكارنا، فهي ليست صانعة الأفكار لكنها بعد أن نصنعها تعود فتصنعنا بما أنها وسيلة تداول وتفاهم واكتساب معرفي، وإذا ما تطلعنا إلى اللغة العربية اليوم، خاصة في العقود الأخيرة فإننا سوف نرى حالة العجز التي وصلت إليها عن مواكبة التطور العلمي المتسارع في عصرنا الحالي، ليس هذا فقط، بل سنرى جنوحها نحو الماضي وإعادة إحياء مفردات وصياغات كانت شبه منسية في القواميس بعد أن تجاوزتها العصور، فعادت إليها الحياة وصارت ملمحًا من ملامح الثقافة الراهنة أو انعكاسًا لآليات ومنظومات تفكير تنمو وتتسع على وقع الهزائم المتلاحقة في كل الميادين، واللجوء إلى الهويات الضيقة المناطقية والإثنية والطائفية وغيرها كطريقة وحيدة وأكثر جدوى في الحفاظ على الوجود، نجم عنه نمو وتغوّل الخطاب العنفي على المستوى الاجتماعي والسياسي، ساهمت في صنعه وكرسته في الوعي العام منظومات الحكم الاستبدادية.

عندما كانت الحضارة العربية منتجة وفاعلة في الحضارة الإنسانية من حيث التفاعل والإفادة مما سبقها من حضارات، ثم البحث والإنتاج الثقافي والعلمي، وقدرة الأنظمة بكل مجالاتها على استيعاب الثقافات الأخرى أو الجنسيات الأخرى، وحتى الأديان

يكفي أن نعود إلى كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب" للكاتبة الألمانية زيغريد هونكه لنعرف الكم الكبير من المفردات المتداولة في اللغات الأوروبية ذات الأصل العربي

الأخرى بعد نشوء الإسلام وامتداد رقعته، فإن أعلامًا كثيرة ممن عاشوا في كنف الدولة الإسلامية من غير العرب أو المسلمين قد أثروا الثقافة والحضارة العربية والإسلامية، وكتبوا باللغة العربية، وليس ابن سينا أو الرازي إلاّ مثالين عن ذلك، كذلك استطاعت اللغة العربية أن تصل إلى بقية الشعوب وتحظى بموقع وظيفي في لغاتها، يكفي أن نعود إلى كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب" للكاتبة الألمانية زيغريد هونكه

في القرن الواحد والعشرين اتسعت الفجوة كثيرًا بيننا وبين الإنتاج الحضاري، وأصبحت اللغة العربية أكثر ما تحتاج إلى ثورة حقيقية

لنعرف الكم الكبير من المفردات المتداولة في اللغات الأوروبية ذات الأصل العربي، منها ما بقي محافظًا على لفظه تقريبًا كما لدى الناطقين بالعربية، ومنها ما تحوّر بعض الشيء خلال الزمن بالتداول الشعبي وتأثير اللهجات عليه، لكن الكلمة تبقى في جوهرها حاملة لمدلول معين.

بالنسبة لنا، نحن العرب، في القرن الواحد والعشرين اتسعت الفجوة كثيرًا بيننا وبين الإنتاج الحضاري، وأصبحت اللغة العربية أكثر ما تحتاج إلى ثورة حقيقية لن تتحقق إذا لم تنجح الثورات الأخرى، الثورة التي تقلب واقعنا المتردي الغارق في ماضويته وعصبياته وثأرياته وهوياته الضيقة، وإذا لم نعترف بأن الهوية لا تُصنع بالتمسك بصورة وحيدة تجعلنا دائمي الخوف على لغتنا من الضياع والانحلال في اللغات الأخرى، اللغة القابلة للحياة مثلها مثل أي كائن قابل للحياة، يستوعب الجديد ويتأقلم معه طالما يخدمه وظيفيًا وحياتيًا، وما لا يمكن له التأقلم ويصير عبئًا على العضوية فإنه يذوي بالتدريج لأجل أن تستمر العضوية بالحياة، فلماذا الخوف من المفردات الحاملة لأدوات العصر المعرفية ومنتجاته ومحاولة صياغة مفردات عربية مطروحة لتكون بديلاً عن اسمها الأصلي في بلد الإنتاج؟ إن كلمة الرائي كمثال، لم تستطع أن تكون بديلاً عن كلمة تلفزيون التي بقيت تقاوم حتى دخلت السرديات والخطابات بكل مجالاتها، فلماذا الخوف من ترك الأسماء تأخذ مكانها في لغتنا المتداولة؟ عندما كنا منتجين للحضارة فإن الكلمات العربية دخلت الثقافات واللغات الأخرى، فحري بنا أن نتعامل مع روح العصر ونعرف كيف نكون فاعلين فيه.

من الأمثلة الدالة على مدى التعصب المعيق للغتنا بطريقة لم تستطع ولن تستطيع أن تحميها، هي المفردات التي دخلت مناهجنا التعليمية وهي معربة بطريقة غير مبررة، جعلت من الطلاب حافظين لها من أجل الامتحانات فقط وهم يعرفون أن استخدامها الفاعل والمفيد عالميًا لن يكون بالمصطلحات المعربة بل بتسمياتها كما هي في بلد إنتاجها، ما تعلمناه في كلية الطب مثلاً من مفردات لا يمكن استخدامها عالميًا، إن كان في متابعة الدراسة والاختصاص أو في مجال البحث العلمي، فالورم المسمى GRANULOM، تم تعريبه إلى كلمة حبيبوم، ومثال آخر EPITHELIUM، درسناه معربًا ظهاروم، وفي الواقع لا أدري كيف تم اشتقاق هذه الكلمة أو إلصاق هذه اللاحقة بها "اوم"، وها هو الـ "اللابتوب" أو "الحاسوب المحمول" يضع لي خطًا أحمر تحت الكلمتين العربيتين، فهل تعريب المنتج العلمي بهذه الطريقة يحمي لغتنا الجميلة من التأثر الخارجي في سياق "التآمر" على حضارتنا؟

إذا لم تنهض الأمة العربية من تحت ركامها وتنفض عنها حمولتها الثقافية التي راكمتها عقود التخلف والتراجع والثأرية والاقتتال البيني واستدعاء الماضي بخطابه ومفرداته، وتبدأ بتشكيل منظومات تفكير مغايرة تتجاوز منظومة العنف المتغول في حياة الشعوب وفي لغتها فإننا لن نستطيع صنع حاضر أو مستقبل، وستزداد غربتنا عن العصر. كما أن الذكاء الصنعي سيصاب باليأس من إمكانية رقمنة لغة احتفت فيها منظمة اليونسكو، وبتعامل بها أكثر من مليار ونصف المليار في العالم، ولن نستطيع حمايتها بمنحها أسباب الحياة المديدة إن بقيت محاصرة في قوالب جامدة تكلست ولم تعد مناسبة لنمو الكائن الكامن في داخلها.

  

كلمات مفتاحية