العقيد "وسيم سليمان حسن"، ثالث مدير لـ سجن صيدنايا سيئ الصيت -المسلخ البشري- يلقى حتفه في ظروف غامضة خلال عقد الثورة السورية، فاتحاً باب التكهنات مجدداً حول خطط الأسد في تحييد الشهود الكبار من ضباطه ورجالات نظامه، على الجرائم التي أصدر أوامره لارتكابها بحق السوريين خلال تلك السنوات العشر.
وفاة وسيم سليمان حسن، أرجعت صفحات الموالين سببها إلى "أزمة قلبية"، ونعت تلك الصفحات سليمان منذ الـ 12 من حزيران الجاري، إلا أن الانتشار الحقيقي لنبأ وفاته جاء بعد نشر "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا" الخبر وكشفها أن الضابط "المتوفى" كان يشغل منصب مدير سجن صيدنايا خلال الفترة الممتدة بين مطلع 2018 ونهاية 2020، بالإضافة إلى شغله منصب "معاون" لمدير السجن السابق "طلعت محفوض" منذ عام 2010، وكذلك معاونٍ للمدير اللاحق "محمود معتوق" بين عامي 2013- 2018.
وذكرت الرابطة أن حسن المولود عام 1969 في إحدى قرى مدينة جبلة، كان الرجل الثاني في السجن طوال سنوات شهدت إفراغ السجن من سجنائه القدامى والبدء بزج المتظاهرين عقب اندلاع الثورة السورية، إلى حين توليه منصب المدير خلفاً للعميد محمود معتوق الذي توفي أيضاً بـ "أزمة قلبية" في بداية عام 2018، بحسب الرابطة.
ولفتت إلى أنها وثقت إعدام ما لا يقل عن (500) شخص خلال الفترة التي تسلّم فيها حسن إدارة السجن، غالبيتهم ممن دخلوا في "مصالحات" أو ما يعرف بـ "تسوية وضع" لدى النظام، من أبناء الغوطة الشرقية ودرعا وحمص وحلب وغيرها خلال الربع الأخير من العام الماضي.
سياسة التصفيات وطمس الدلائل
بالرغم من إمعانه في القتل والتعذيب منذ ربيع 2011، وبالرغم من انتشار عشرات آلاف الصور والمشاهد على منصات ووسائل الإعلام الدولية؛ إلا أن النظام وخاصة بعد ظهور فصائل المعارضة على الساحة السورية في النصف الأول من عام 2012، أخذ يتّبع سياسة خلط الأوراق مستغلاً حالة الفوضى التي أفرزتها الحرب في سوريا. فحرص على التخلّص من الأدلة التي من شأنها أن تدينه أو تعرضه للمساءلة والملاحقة القانونية مستقبلاً، لارتكابه جرائم حرب وضد الإنسانية، بالإضافة أيضاً لجرائم سبقت اندلاع الثورة السورية.
تصفية شهود سجن صيدنايا
بالعودة إلى الفترة السابقة لإدارة وسيم سليمان حسن سجن صيدنايا، نرى أن تنفيذ خطة التصفيات بدأت مع اللواء طلعت محفوض: أدار طلعت محفوض المولود عام 1958 بريف طرطوس، سجن تدمر (حين كان برتبة مقدّم) منذ أيار 1998 خلفاً للعقيد غازي ديوب، قبل أن يتسلّم الشرطة العسكرية في اللاذقية لفترة قصيرة، ومن ثم تم استدعاؤه لإدارة سجن صيدنايا على خلفية الاستعصاء الشهير عام 2008.
بعد اندلاع الثورة السورية، ظل محفوض مديراً للسجن لنحو عامين وشهرين، حيث قُتل على إثر "كمين" نُصب له في الـ7 من أيار عام 2013 من قبل فصيل تابع للمعارضة يدعى "لواء الصادق الأمين" الذي لم يعلن تبنيه العملية إلا بعد 3 أيام (10 من أيار)، وذلك عقب نشر النظام نبأ مقتل محفوض، ما يُبعد مزاعم استهدافه من قبل المعارضة.
بعد مقتل محفوض، تسلّم إدارة السجن العميد "محمود أحمد معتوق" الذي أعلن النظام مقتله في منتصف كانون الثاني 2018، فأزاح بذلك الشاهد الأول، بل المشارك الأكبر، في إعدامات سجن صيدنايا- المسلخ البشري.
وفي حين ادّعى إعلام النظام أن معتوق لقي حتفه "أثناء تأديته الواجب الوطني"، دون أي توضيح آخر، زعمت مصادر مقربة من عائلة معتوق أنه قتل بمعارك إدارة المركبات في حرستا شرقي دمشق.
وتبدأ قصة "المسلخ البشري" عقب انتشار تقرير منظمة العفو الدولية (أمنيستي) دانت فيه المنظمة نظام الأسد بارتكاب جرائم ضد الإنسانية على ضوء معطيات نحو 100 مقابلة تشير إلى ارتكاب النظام عمليات إعدام ميدانية ومن غير محاكمة لـ 13000 معتقل في سجن صيدنايا، خلال الفترة الممتدة بين أيلول 2011 وكانون الأول 2015.
التقرير أكّد وجود حملة مدروسة تنفذها مخابرات الأسد على شكل إعدامات خارج نطاق القضاء، وتتم عن طريق عمليات شنق جماعية داخل سجن صيدنايا، طالت المعتقلين الذين شاركوا بالاحتجاجات التي انطلقت ضد نظام الأسد في آذار 2011.
وبمقتل معتوق يكون النظام قد أزاح عن كاهله أخطر شاهد على أبشع مجزرة حصلت خلال الثورة السورية على الإطلاق، والمصنّفة ثانياً بعد (هولوكوست) الحرب العالمية الثانية، لا سيما وأن أجساد الضحايا قد تمّ حرقها بعد الإعدام، بحسب تقرير أمنستي.
تصفية شهود الجرائم الأخرى
جامع جامع.. الخيط الأول
شغل اللواء جامع جامع منصب رئيس فرع الأمن العسكري بمحافظة دير الزور قبل أن يصبح مسؤول الاستخبارات في المنطقة الشرقية بشكل عام إبّان انطلاق الثورة، وكان أشد الضباط قمعاً في المنطقة، ويعتبر المسؤول الأول عن الكثير من الجرائم بحق الثوار والمتظاهرين السلميين في دير الزور.
وبتاريخ الـ17 من تشرين الأول 2013، اغتيل جامع أثناء خروجه في جولة تفقدية على أحد أحياء المدينة، ولكن لم يعرف المصدر الذي نفذ العملية إلى الآن، إلا أن معظم المصادر والشهود يؤكدون على أن مقتله تم في مناطق بعيدة عن رصد قوات المعارضة، ما يرجّح قيام النظام بتصفيته.
الدافع الرئيس لتصفية جامع جامع، لم تكن الجرائم التي ارتكبها بحق أبناء الدير خلال الثورة، وإنما لاعتباره من بين المتهمين باغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، ويقال إنه يعرف الكثير حول تفاصيل عملية الاغتيال بحكم أنَه كان موجوداً على رأس عمله في بيروت أثناء اغتيال الحريري. وبذلك يكون النظام قد تخلّص من الشاهد الثاني على اغتيال الحريري، بعد أن سبق وتخلّص من اللواء غازي كنعان الشاهد الأول في عام 2005 بعد شهور قليلة من اغتيال الرئيس الحريري، والذي أكّد مقتله على يد النظام شهادة العميد المنشق من الأمن السياسي، نبيل دندل، عبر لقاء خاص.
رستم غزالة.. الخيط الأخير
برز اسم اللواء رستم غزالة كرئيس لفرع الأمن العسكري في بيروت خلال وجود الجيش السوري في لبنان، ومن ثم عيّن من قبل الرئيس السوري بشار الأسد في عام 2002 لخلافة اللواء غازي كنعان رئيساً للاستخبارات العسكرية السورية في لبنان.
وبعد اغتيال رفيق الحريري، وخروج الجيش السوري من لبنان، عاد إلى سوريا ليتم تعيينه رئيساً للأمن السياسي بعد تفجير مبنى الأمن القومي ومقتل عدة وجوه مهمة مما يسمى "خلية الأزمة".
يعتبر رستم غزالي من بين أهم المتهمين باغتيال رفيق الحريري، وقُتل بظروف غامضة في آذار 2015؛ ليتم بذلك إغلاق ملف شهود اغتيال رفيق الحريري بالكامل بعد الانتهاء من جامع جامع وغازي كنعان.
معظم المصادر ترجّح أن يكون غزالة تمت تصفيته على يد اللواء رفيق شحادة، بـ"ضوء أخضر" من نظام الأسد. حيث تعرض غزالة في منتصف آذار 2015 للضرب من قبل حرس رفيق شحادة بعد أن كان غزالة قادماً إلى مكتب شحادة الذي كان يشغل رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، لتوبيخه نتيجة خلافات بينهما على طريقة إدارة الأزمة في درعا، وفق بعض الروايات.
وقيل في إحداها إن الحرس سحب رستم غزالة بعد ضربه إلى مكتب شحادة الذي أكمل عليه وأدماه بعد لكمه على فمه وكسر بعض أسنانه، وقيل بعد ذلك إن غزالة دخل إلى المشفى في دمشق ولم يخرج منها إلا على التابوت.
النتيجة التي ينشدها الأسد
إزاحة شهود ومنفذي أوامر اغتيال رفيق الحريري، جامع وغزالة وقبلهما كنعان، لعبت دوراً رئيساً في تبرئة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، لكل من نظام الأسد و"حزب الله" من جريمة اغتيال الحريري. ولا شك بأن إزحة شهود ومنفذي مجازر صيدنايا سيسهم أيضاً في تبرئة الأسد من دم عشرات آلاف الضحايا في حال خضوعه للمحاسبة مستقبلاً، خصوصاً وأن المحاكم الدولية أثبتت عدم جديتها في التعامل مع جرائم النظام وأعوانه.. وأقرب مثال تجلّى في قضية الحريري.