مديرو سجن تدمر.. غازي ديوب

2020.04.06 | 00:18 دمشق

arton930.jpg
+A
حجم الخط
-A

إذا كانت السمة الأشهر لعهد فيصل غانم هي الفساد، ولحقبة غازي الجهني هي القسوة؛ فإن سنتَي إدارة غازي ديوب جمعتا بين الصفتين، بالإضافة إلى بهارات من التدخلات العائلية، في خلطة من «الفوضى» كانت عنوان هذه المرحلة، وفق تعبير سجناء معتقلين كانوا قبل تسلّم المدير الجديد واستمروا بعده.

ولد ديوب عام 1958 في قرية عين الشرقية بريف جبلة. تدرّج في الجيش حتى تسلّم مباحث الشرطة العسكرية بحلب. كان هذا المنصب هاماً مع تغول هذا الجهاز على قطاعات واسعة من الحياة العامة تبعاً للأحكام العرفية المطبقة، وفي مدينة تفضّل أن تحل مشاكلها الكثيرة مع السلطات بدفع المال. وكانت هذه المباحث أقرب ما تكون إلى ذراع أمني، مما فتح لديوب فرصة العلاقة الوطيدة مع أعلى هرم جهازَي المخابرات العسكرية وأمن الدولة في المدينة، مما كان سيفضي حكماً إلى تبادل المصالح مع أحد أقطاب السلطة المحلية وقتها؛ مدير الأوقاف الشهير صهيب الشامي. وكان مجمل هذه العلاقات يترجَم إلى شقق ومكاتب، سواء في بنايات الأوقاف المتكاثرة والمخصصة للتوزيع على الأقطاب والشركاء والأصدقاء والمحاسيب، أو في مشاريع مؤسسة الإسكان العسكرية، وأخيراً في أملاك اليهود الحلبيين المستولى عليها إثر هجرتهم غير الشرعية.

حوالي منتصف 1996، عندما نُقل المقدم غازي إلى سجن تدمر ليديره تكليفاً لا تعييناً، عرف أن أيامه هناك قليلة وأن عليه أن يستغلها بسرعة. لكن الضرع كان قد جف بعد أن أعجفته السنون. كان أكثر من ثلاثين ألفاً ممن دخلوا هذا السجن قد خرجوا منه جثثاً، وفق تقديرات السجناء لعدد من قضوا بحفلات الإعدام التي استمرت منذ 1980 وحتى 1992. فضلاً عن بضعة آلاف قُتلوا بين أيدي السجانين في المناسبات العشوائية المتكررة من العقوبات وإدخال الطعام والتفتيش والتنفس والحمّام. وعدة آلاف ماتوا نتيجة موجات الكوليرا والسل والأمراض المزمنة. فيما نجا بضعة آلاف ونُقلوا إلى سجن صيدنايا وخرجوا. وكان عدد من بقي في سجن تدمر الغربي، المستخدم للسياسيين، في حدود الألف فقط.

ورغم أن الغنيمة لم تكن مغرية فإن ديوب التقط من يعينه على استثمارها بالشكل الأمثل. أو لعل الرقيب أول الماكر والمتسلط، أحمد هيثم المحمود، هو من استشعر اتجاه رياح المدير الجديد فتقرب إليه ليتمكن من تسلم مهام «مساعد الانضباط»، مطيحاً بسلفه الذي كان حليفه في ما مضى للإطاحة بمساعد انضباط أسبق. وإذا كانت التسمية تُظهر هذه الوظيفة وكأنها إجرائية فذلك أبعد ما يكون عن الواقع. فمساعد الانضباط هو الأعلى مرتبة بين صف الضباط الذين يمسكون مفاصل السجن. إنه المسيطر فعلياً. وإذا عددنا المدير بمثابة «صاحب السجن»، فإن مساعد الانضباط مديره التنفيذي.

جاءت الفرصة أخيراً للرقيب أول أحمد، بعد سنوات من الخدمة في هذا المنفى الصحراوي، ليسيطر عليه ويتحكم في نزلائه ويستحلبهم، بيد للتعذيب وأخرى للارتزاق.

يُجمع المعتقلون الذين عاشوا تلك المرحلة على شعورهم بتجدد «السَجنة» مع وصول ديوب وتعيين مساعد انضباطه، بعد سنوات كان نمط «الحياة» فيها قد ركد على نظام معين، مريع دون شك، لكنهم تأقلموا معه. أما خلال العهد الجديد فقد ارتفعت الوحشية المستمرة إلى مستويات لم يعرفوها من قبل إلا بشكل متقطع. فصار الجلد بستمائة أو سبعمائة كبل أمراً معتاداً، والوصول إلى رقم 1000 رائجاً، وإلى 1500 أحياناً. وأسهمت قلة عددهم في تواتر التعذيب عليهم بدورة أسرع، سواء بالعقوبات التي تنتج عن «التعليم» إثر «المخالفات» الليلية، أو عند إخراج رئيس المهجع، أو أياً من نزلائه، للضرب مزاجياً.

يُجمع المعتقلون الذين عاشوا تلك المرحلة على شعورهم بتجدد «السَجنة» مع وصول ديوب وتعيين مساعد انضباطه

في الوقت نفسه كان يمكن اتقاء هذه السادية المنفلتة بالرشوة. لكن هذا لم يكن متاحاً إلا لقلة من السجناء الذين وردتهم زيارات نادرة، كانت تنتهي بنهب صف الضباط لأكثر ما يأتي به الأهل من ملابس وأغذية وأدوية، وإيداع ما يكونوا قد أعطوه له من مال في «الأمانات»، كما «يقتضي النظام»، ليعمد مساعد الانضباط إلى سحبها لاحقاً بالتدريج، بناء على «فواتير» من المشتريات الضرورية التي يطلبها السجناء، وتصل إليهم بأسعار فاحشة وكميات أقل بمرات من التي طلبوها، وكان عليهم أن يوقعوا على الاستلام تحت وطأة السياط و«الدواليب».

لم يظهر المدير في واجهة هذا المشهد إلا قليلاً، عندما كان يشرف أحياناً على التعذيب. فقد أطلق يد مساعد الانضباط وصف الضباط والعناصر وتفرغ لأمور أخرى ستتضح لاحقاً. ولم يعكّر عليه انشغاله إلا خروج أحد السجناء الشيوعيين الذين كانوا قد نُقلوا إلى السجن قبله بأشهر، عقوبة لهم على «الرأس اليابس» الذي أظهروه عند المساومات مع اللجان الأمنية. ورغم قلة عددهم فإنهم كانوا مزعجين بشكل خاص لأسباب عائلية وطائفية، فقد كان من بينهم عدد من معتقلي حزب العمل الشيوعي (الرابطة) الذي ضم عدداً وافراً من العلويين. وحالما أُفرج عن أولهم عمد إلى زيارة أهالي رفاقه، واصفاً لهم ظروف السجن الرهيبة، محرّضاً إياهم على التحرك، عبر العلاقات الشخصية والقرابات، لإنقاذ أبنائهم من كارثة محتملة.

وصل الأمر إلى منزل ديوب نفسه. فاستقبلت زوجته أم سليمان بعض الأهالي وسمعت منهم ما لا تعرفه عن عمل زوجها. إثر هذا سيزور المدير مهجع الشيوعيين، موبخاً إياهم وسامعاً طلباتهم. ليجيب أنه لا يستطيع أن يغيّر قواعد السجن، ومنها أن عليهم النوم إجبارياً من السابعة مساء إلى السابعة صباحاً، مطمّشين، على جنوبهم حصراً، دون أن يتحركوا أو يستخدموا المرحاض. هذا «نظام»، كما قال المدير، ولا مجال للعبث به! زادت كمية الطعام الشحيح، قليلاً، وسمح بالطبابة والأدوية. لم تكن هذه التغييرات جذرية لكنها كانت ذات قيمة نسبية فارقة في ذلك الجحيم، وأُضيفت إلى «تمييز» أصلي يحظى به الشيوعيون بالقياس إلى الإسلاميين والبعثيين العراقيين، دون أن يعني هذا أن وضع الجميع لم يكن فظيعاً.

وللأسباب الاجتماعية نفسها بقي الشيوعيون خارج دائرة الاستنزاف المالي، ليعوّض عنهم السجناء بتهم التعامل (الجاسوسية)، الذين كانوا يعيشون في أفضل الظروف التدمرية، السيئة، وكذلك الموقوفون في سجن تدمر الشرقي المخصص للمخالفات العسكرية المسلكية، الذين كان ذووهم مستعدين لدفع ما يمكن للتخفيف عن أبنائهم. حتى أتى يوم غريب، في أيار 1998 على الأرجح، اعتقل فيه مدير السجن ومساعد انضباطه...

الشائع أن التهمة التي سُجن غازي ديوب على ذمتها هي التنقيب عن الآثار في صحراء تدمر وتهريبها والاتجار بها. غير أن مطّلعين أقرب إلى المحكمة العسكرية قالوا إن الأمر لم يقتصر على ذلك، بل تعداه إلى فتح ملفات فساد العقيد كلها، سواء في حلب أو في سجن تدمر الذي رُفعت منه تقارير بيد الرقيب أول نعمان، وهو مَن سيصبح مساعد الانضباط الجديد! لكن مصادر خبيرة بكواليس النظام استخفت بكل هذا. فالفساد ليس مشكلة جدية في دولة حافظ الأسد، وإن كان لا بد فإنه يؤدي إلى الإقالة دون محاكم. أما ما يخسف الأرض فهو تجاوز الخطوط الحمراء للرئيس الإله، وهو ما يقولون إن ديوب قد فعله. وفي هذا المجال يجري الحديث عن سجين أردني بتهمة التعامل، تم تهريبه تحت ذريعة الوفاة مقابل مبالغ طائلة، أو سُمح لذويه بزيارته بعد أن كان الأسد قد أنكر وجوده عندما طلبه منه الحسين بن طلال، ملك الأردن وقتها.

الشائع أن التهمة التي سُجن غازي ديوب على ذمتها هي التنقيب عن الآثار في صحراء تدمر وتهريبها والاتجار بها

على كل حال، تبقى هذه المسائل معلّقة بانتظار المزيد من المعلومات. لكن المؤكد أن مدير سجن تدمر صار نزيلاً في جناح الضباط بصيدنايا في خريف 2000. وأن عدداً من المعتقلين السابقين لديه صدَفه وسخر منه وأظهر الشماتة، وأن آخرين تمنوا لو كان بمقدورهم قتله، مما دفعه إلى طلب النقل من هذا السجن الذي واجه فيه ضحاياه، وقضاء بقية مدة حكمه في سجن دمشق المركزي (عدرا)، وهو ما حصل.

والحق أن ديوب لم يبخل بدفع ما يلزم خلال محنة سقوطه، بدءاً من الرشوة للحصول على حكم بالسجن لا يتجاوز بضع سنوات على بعض القضايا و«لفلفة» أخرى، وغرامة ثلاثة ملايين ليرة التي قضت بها المحكمة، وانتهاء بالمصاريف اللازمة ليقضي أيامه كأفضل ما يمكن. ورغم ذلك كانت الصفقة رابحة في نهاية المطاف، عندما أبدى استخفافه، قائلاً لبعض المقربين منه، بعد الإفراج عنه: «عبّيت تنكات ذهب».