مديرو سجن تدمر: طلعت محفوض

2020.04.13 | 00:32 دمشق

00.jpg
+A
حجم الخط
-A

تبدو الشوارب المعقوفة أبرز معالم وجه الرجل وأول ملامح شخصيته كذلك، هو الذي طالما نظر إلى نفسه كضابط في الشرطة العسكرية أساساً، قبل أن يتسلم إدارة سجني تدمر وصيدنايا على التوالي. وهو ما لم يحدث في السابق إلا مع بركات العش، الذي أدار سجن تدمر بالوكالة ثم انتقل إلى إدارة سجن صيدنايا عند إنشائه، وأضاف إليهما إدارة سجن المزة حتى إغلاقه.

ولد طلعت محمد محفوض (ديب) عام 1958 في قرية البريخية بريف طرطوس. تحدّر من عائلة علوية فقيرة ومعسكرة، فقد قُتل أخوه علي، النقيب في الوحدات الخاصة في لبنان عام 1982، أثناء «تحرير زحلة»، وتوفي أخوه بسام منذ أشهر برتبة عميد. كما انتمى محفوض إلى منطقة الدريكيش، التي تتبع لها قريته، وهي منطقة ذات حضور ملحوظ نسبياً، ضباطاً وصف ضباط، في جهاز الشرطة العسكرية.

وفي هذا الجهاز سيصبح طلعت محفوض قائداً لدورات المتطوعين أو حاملي إجازة الحقوق الملتحقين بالخدمة الإلزامية في مدرسة الشرطة. وسيتدرج في هذه الوظيفة، مرتاحاً، حتى بلوغه رتبة مقدم ويجري استدعاؤه لإدارة سجن تدمر، منذ أيار 1998، خلفاً للعقيد غازي ديوب.

01.jpg

تبعاً لمسيرته المهنية، سينظر المدير الجديد إلى مهمته في تدمر، بشكل أساسي، من زاوية «السجن الشرقي» المخصص للعقوبات المسلكية للعسكريين. أما المعتقلون السياسيون، وهم في حوالي الألف، الذين وجدهم في «السجن الغربي» فلن يتدخل جدياً في نظامهم إلا تخفيفاً حتى توقف التعذيب بشكل شبه تام في 1999، وإخلاء سبيل قرابة 600 منهم في تشرين الثاني 2000، ثم نقل من تبقى إلى سجن صيدنايا في صيف 2001، تماشياً مع الوعود الإصلاحية لبواكير عهد بشار الأسد.

قبيل نقل الأخيرين، من بقايا متهمي الإخوان المسلمين والبعث اليميني (العراقي) وبعض الفلسطينيين، سيجتمع بهم المدير، وتصدر لهم أوامر مفاجئة برفع رؤوسهم وفتح أعينهم والنظر إليه بينما يمارس إحدى هواياته الأثيرة في ممارسة خطابة الضباط البعثيين الركيكة. سيسمع المعتقلون بدهشة أن الرئيس يحبهم، فهم أبناء الوطن ولو أخطؤوا، لكن عليهم العودة إلى الولاء للبلد. بل إن العقيد سيقول إنهم مثقفون واعون، و«أحسن من هالجحاش» من صف ضباط وعناصر الشرطة العسكرية الذين كانوا مقدسين!!

بعد نقل السياسيين سيجد محفوض نفسه في مكانه الطبيعي، فيدير سجن الجيش بحزم ودون شبهات فساد. سيغادره مؤقتاً ليتسلم فرع الشرطة العسكرية باللاذقية، قبل أن يتركه نهائياً متوجهاً لإدارة سجن صيدنايا، إثر استعصائه الشهير، في تموز 2008.

يحب أبو أوس شرب «العرَق» وتدخين سجائر «الحمراء الطويلة» المحلية ومعاشرة النساء وتكرار أبيات رجولية من الشعر العربي تحث على خوض المصاعب. وهو يروي مفتخراً أن «السيد الرئيس» اتصل به «بعتمات الليالي»، قائلاً: «يا طلعت، بدي رجال توقّف لي هالشي اللي عم يصير بسجن صيدنايا»، وأنه استجاب لتكليف «القيادة» التي وضعت ثقتها به، رغم أن ذلك سيجمّد مسيرة صعوده. فقد نُقل إلى موقعه الجديد بعد أن وصل إلى رتبة عميد، وملاك السجن لا يحتمل أكثر من رتبة عقيد أصلاً، مما يعني توقف ترفيعه ما دام هناك. وهو الأمر الذي طالما امتن به على نزلاء صيدنايا، بعد وقوعهم تحت براثن خطبه، التي قد تمتد لساعات، كلما غلبته شهوة الكلام وملّ مراجعة السجلات.

في هذه الإسهابات البارانويدية سيستعرض الجنرال الغروتسكي مواهبه، جالساً على كرسيّ أو متمشياً جيئة وذهاباً، على سجناء صامتين ووجوههم إلى الجدار. فهو يفهم السياسة أفضل من حزبييهم والإسلامَ خيراً من جهادييهم! مستغرباً كيف وقعوا ضحية المؤامرة الأميركية الصهيونية السعودية على الوطن الذي أكلوا من خيره وتعلموا في مدارسه وجامعاته!! مفاخراً ببراعته في القضاء على الاستعصاء، التي تضاف إلى الخبرات الأمنية السورية التي يجب أن يتعلم منها العالم بأسره أصول التعامل مع «الإرهاب».

لم يكن في وسع المعتقلين أن يردّوا أن فشل الاستعصاء كان نتيجة حتمية لنقص المواد الغذائية والأدوية وقطع المياه. كان عليهم فقط أن يصغوا لهذيان العميد الهوسي الذي يطلق عليه محبوه لقب «أسد تدمر وصيدنايا»، رغم أن ما نعرفه عن «خبرته» في القضاء على تمرد في سجن تدمر يقتصر على حالة وحيدة جرت بعد تسلّمهِ بمدة قصيرة. كانت سرية التأديب، المسؤولة عن درجة أشد من العقوبات المسلكية للعسكريين، قد احتلت جزءاً من «السجن الغربي». وأثناء الرياضة الصباحية المفروضة عمد أحد السجناء إلى تسلق شجرة عالية في الساحة مهدداً بالانتحار. ولما عجز المساعدون الموجودون عن إقناعه بالنزول اتصلوا موقظين المدير الذي جاء غاضباً، بالبيجاما الرياضية والبارودة الروسية. ولم يستغرق وقتاً طويلاً لينذر السجين بالهبوط عند اكتمال العدّات إلى ثلاث. وحالما أنهاها أطلق النار على العسكري المتمرد الذي سقط جثة هامدة على الأرض، مثل عصفور، فيما كان المدير يصرخ به: «يا عرصة... بيحق لنا 5% يموتوا».

ربما سيحافظ طلعت محفوض على هذه النسبة أثناء الاقتحام الأخير على العشرات الأعند من سجناء صيدنايا، معلناً بذلك نهاية الاستعصاء، ومخضعاً المعتقلين بعده لأنظمة صارمة نقلها من سجن تدمر وأطاحت بسمعة سجن صيدنايا كمكان احتجاز «معقول». قبل أن تندلع الثورة ولا يبقى للنِسب موضع. ففي الأشهر الأولى منها جرى إخلاء السجن من نزلائه القدامى، ومعظمهم جهاديون، بالإفراج عنهم أو نقلهم إلى سجون مدنية، وأخذ باستقبال طلائع المعتقلين على ذمة الثورة، بدءاً بالضباط المشتبه في نيتهم الانشقاق.

02.jpg

انطلاقاً من هذه المرحلة سيتدهور وضع سجن صيدنايا بتسارع حتى يصبح بحق «المسلخ البشري». لن تبلغ الوحشية أقصاها في عهد محفوض إلا أن أسسها ستوضع في زمنه. ومع امتداد الاحتجاجات وتسلحها سيشعر المدير بالخطر ويعمد إلى التنكر بارتداء الكلابية والعقال أثناء تنقله، مسلحاً، من منزله وإليه. غير أن هذا لن يقيه من كمين سيؤدي إلى مقتله في أيار 2013.

بالعودة إلى سجن تدمر يتذكر أحد المعتقلين الأيام النهائية لوظيفته السياسية بعد أكثر من واحد وعشرين عاماً من الدم. فقد كان في الدفعة الأخيرة في ترتيب النقل، وتشاء المصادفات أن يكون آخر اسم في القائمة فيصبح «الشاهد الأخير». وهو يروي أن محفوض اجتمع بهم وألقى عليهم خطبة قال فيها: «إن الوطن متل طيز الإنسان، ولازم الواحد يدافع عن وطنه متل ما بيدافع عن طيزه».