تصحُّر سوريا..

2022.10.06 | 06:35 دمشق

تصحُّر سوريا..
+A
حجم الخط
-A

نكاد نجزم بأن النظام لم يخطط لبناء أي معلم حضاري يستحق أن يذكر، هذا ما توضحه كتب التاريخ القريب، وكذلك المجلات والصحف القديمة والوثائق الرسمية، فكل الأبنية والمؤسسات المعروفة كانت قد وضعت على سكة الدراسة والتنفيذ، قبل سيطرة البعثيين على السلطة في آذار 1963.

لا أحد يفتري على مرحلة الأسد الأب من هذه الناحية، فلا شيء يقارع حجة المكتوب والمدون، الذي يكشف أن غالبية المشاريع العملاقة التي يدعي الأسديون أنها من منجزات الحركة التصحيحية، كسد الفرات وكذلك تجفيف سهل الغاب، ليست سوى قطفٍ لثمار من زرعوها في زمن ما بعد الاستقلال.

حتى في الشؤون الثقافية والتي تبدو أقل كلفة من المشاريع السابقة، تم وضع الخطط لتطوير البلاد في مرحلة الوحدة مع مصر، وهذا ما تكشفه مذكرات "في السياسة والثقافة" للمؤرخ والباحث المصري ثروت عكاشة الذي تولى شؤون وزارة الثقافة للإقليم الشمالي، في آخر شهور الوحدة بين البلدين، حيث يتحدث عن تحضير لدراسات تخص مشروع المكتبة الوطنية، التي صارت فيما بعد "مكتبة الأسد"!، وكذلك دار الأوبرا التي تغير اسمها بفعل النفاق والرياء أيضاً، لتحمل بدورها الاسم المقيت ذاته.

وحدها السجون، كانت تبنى طيلة نصف قرن من دون أن نجد سبباً لها، إلا السياسة الأمنية التي أتبعها هذا الحكم في قيادة السوريين!

جلب منظمةً تُدجن الأطفال من أنموذج كوري شمالي، وسماها طلائع البعث، وأحضر أيضاً المنظمات الشعبية من ألمانيا الشرقية وكوبا

كان حافظ الأسد يريد أن يوسع لنفسه مكاناً، في صف الحكام الذين ينتمون للفضاء المعادي للولايات المتحدة والغرب عموماً، رغم تسوله العلاقة معهم، في غير واقعة ومناسبة، لكن في الظاهر كان لابد من أن يستنسخ التجارب الاشتراكية، فجاء من كل قطر بأغنية: جلب منظمةً تُدجن الأطفال من أنموذج كوري شمالي، وسماها طلائع البعث، وأحضر أيضاً المنظمات الشعبية من ألمانيا الشرقية وكوبا.

وفي زحمة طموحه للاستحواذ على الاهتمام من قبل الأصدقاء، كان يجد السعادة في اصطحاب الزوار إلى بعض منشآت بناها ليزين فيها واجهة حكمه، بالتوازي مع رصفه البلاد بالمعتقلات وأبنية الفروع الأمنية، التي صارت منتشرة في كل مكان!

ومع الوقت، صارت المنشآت "الحضارية" قديمة، لا تصلح لأن تكون مكاناً مبهراً للضيوف، بسبب عدم تطويرها، وسوء الاعتناء فيها، ولسبب جوهري آخر لم يحسب له حساباً ربما، إذ إن ما يظنه مبهراً كان أمراً عادياً في حقيقة الأمر، فكل البلاد لديها مدن رياضية، وتحتوي على دور للأوبرا، ودور عرض سينمائية، ومسارح!

منذ جاء الأسديون إلى السلطة كانت القنيطرة المدمرة درة مقاصد الوفود الزائرة، لقد جعلوا منها وبالتنسيق مع الإسرائيليين متحفاً، يصلح للزيارة في كل وقت، ومع قيام الأسد الابن بتدمير مدن بكاملها في العقد الأخير، صارت لدى النظام بدلاً من القنيطرة قنيطرات، صار يأخذ ضيوفه لزيارتها ليبرهن على المؤامرة الكونية التي استهدفته!

لماذا يتعب بتجديد سوريا، وهو يعرف أن نظامه خادمٌ يؤدي دوراً وظيفياً للآخرين، وفي أثناء ذلك يتصرف كالعلقة التي تمتص دم ضحيتها؟! وهو يدرك أنه سيغادرها يوماً

يوزع المكتب الإعلامي لجمهورية كوريا الديموقراطية المحكومة من عائلة وحزب شقيق للبعث، نشرة ملونة باللغة الإنكليزية بعنوان Korea today، يعتني من خلالها بالصورة، ويحاول صُناعها قدر الإمكان، أن يخففوا فيها، من صورة البلاد القميئة، المهددة بالمجاعات، لصالح إظهار المنجزات الجميلة، والكوريين السعداء!

الأسد الابن لم يكن في أي يوم مهجوساً كما زميله كم جونغ أون بتصدير صورة مجملة عنه وعن بلاده، وهو ينسجم ويصدق في هذا مع نفسه، فلماذا يتعب بتجديد سوريا، وهو يعرف أن نظامه خادمٌ يؤدي دوراً وظيفياً للآخرين، وفي أثناء ذلك يتصرف كالعلقة التي تمتص دم ضحيتها؟! وهو يدرك أنه سيغادرها يوماً، بعد أن يسلبها كل ما تملك، ولا بأس من أجل ذلك أن يبيد جزءاً من شعبها!

في الزيارات الأخيرة لقوى يسارية أوروبية لدمشق، كان من اللافت وعلى سبيل المثال لا الحصر أن أعضاء في الحزب الشيوعي في فالنسيا الإسباني، والذي يرفع شعاراً يقول إنه "يقف تاريخياً مع الجهة الصائبة"، قاموا بزيارة مكتب بثينة شعبان، ومدينة معلولا ودير صيدنايا، بينما لم يزوروا -مثلهم مثل أعضاء من اتحادات وروابط الكتاب العرب-معالم أثرية، بل اكتفوا بزيارة أسواق الحميدية والعصرونية ومدحت باشا لشراء بعض أطايب وتحف الشام.

كما لم تنقل وسائل إعلام النظام أي شيء عن زيارات وفود إلى أي منشأة حضارية، ويستدعي هذا الأمر النظر إلى مجمل الصور التي تخرج عبر الإعلام ذاته عن سوريا، ليكتشف المشاهد أن لا شيء يمكن النظر فيه سوى الخراب!

وحتى في المشاريع التي يطبل لها النظام، مثل تدشين الأسد لمشروع طاقة شمسية في عدرا قبل أيام، ستخيم على المكان أي المدينة الصناعية ظلال صحراء قاحلة، لم تحدد فيها طرقاً ولا مساحات خضراء!