على هامش السخرية.. إطلالة سريعة على الولاء الأسدي

2024.02.29 | 06:52 دمشق

آخر تحديث: 29.02.2024 | 06:52 دمشق

على هامش السخرية.. إطلالة سريعة على الولاء الأسدي
+A
حجم الخط
-A

اشتغل دارسون على تحليل مفهوم الولاء، بوصفه نمطاً لعلاقة بين طرفين، وأيضاً من خلال حمله مجموعة من القيم، تحتاج بذاتها، إلى التدقيق، والمقاربة.

ومن خلال إطلالة سريعة على نصوص بحثية متاحة، تشرح مضمون المصطلح، يبدو للقارئ أن ثمة وجهتين للأمر، الأولى، تلك التي تحلله بوصفه "محور الفضائل كلها، وروح الأخلاق العاقلة، وإذا تم قيام وحدة صحيحة بين الأخلاق ونظرية فلسفية عن العالم الواقعي تحققت وحدة الدين بالحياة العملية" وهذا ما يراه جوزايا رويس، صاحب كتاب (فلسفة الولاء).

أما الثانية فهي تراه "نزعة عملية للاستمرار في رابطة ذات قيمة جوهرية بذاتها (وإن لم تكن بالضرورة رابطة قيمة)، حيث يتضمن ذلك التزاماً مكلفاً محتملاً لتأمين -أو على الأقل- عدم تعريض مصالح أو رفاهية أصحاب ذاك الولاء للخطر" وهذا ما ذهب إليه جون كلينق في موسوعة ستانفورد الفلسفية.

تبعاً لهذين التصورين، لا يمكن تضييق معنى الكلمة إلى قضايا جزئية، يُعبر عنها من خلال صراعات بينية، تقوم على ولاء المصالح والتحالفات، أي التبعية المباشرة بين صاحب القوة وبين من هم أقل منه قوة، الذين يحتاجون في أطوار العلاقة معه، إما إلى إثبات ولائهم، وإما إلى نقضه، وبالتالي إثبات تأييدهم لمنافس آخر.

إما البقاء في دوائر الحاكم / الطاغية، وضمان الاستمرارية في العلاقة معه، وإما الخروج عليه، وبالتالي انقطاع العلاقة والتحول من صف "المؤيدين الوطنيين" إلى جهة "المعارضين الخونة"

لكن بالتوازي مع الحفر عميقاً في طبقات المفهوم المتراكمة تاريخياً، يمكن ولأسباب عملية، وربما عابرة، إلقاء نظرة على آليات تكوّن الولاء، لدى شرائح فنية وثقافية في المجتمع، الذي تسيطر عليه، وتتحكم به الطغمة الديكتاتورية. حيث يحتاج الدارس لأن يقوم بتقصي آليات السيطرة، التي تتبعها، من أجل إبقاء النخب تدور في فلكها، لينتهي الحال بالجماعات والأفراد، إلى مصير محدد؛ إما البقاء في دوائر الحاكم / الطاغية، وضمان الاستمرارية في العلاقة معه، وإما الخروج عليه، وبالتالي انقطاع العلاقة والتحول من صف "المؤيدين الوطنيين" إلى جهة "المعارضين الخونة"!

الحالة السورية، كانت ومازالت مختبراً لفهم الولاء، بشكل يمكن تفسيره دون صعوبة، وبما يسمح للجمهور أن يتلقى الفكرة، وأن يجد بسهولة نماذج يعرفها تشرح له المضامين. حيث تستدعي علاقة الأسديين ببعضهم، وبالآخرين، كل ما يخطر على البال من صراعات وتقاربات، تبدأ من قيام الأسد الأب بتشكيل جماعته الخاصة في الستينيات، ضمن المحيطين البعثي والعلوي في آن معاً، وتمر بصراعه مع منافسيه، فيهما معاً، وصولاً إلى سيطرته على مقاليد السلطة، وتطبيقه لسياسة خاصة، يلعب فيها الولاء دوراً أساسياً، حيث ظهر على كافة المستويات، داخلياً وخارجياً، أن بنية النظام ذاتها تسقط دونه، وأن أي خلخلة في مكونات وصفته المحددة، ستنعكس على مستقبله. وهكذا تمر قصة صراع الأخوين حافظ ورفعت أوائل الثمانينيات ضمن المسار ذاته، فهي أخطر بكثير من الصراع مع الجماعة الخارجية العدوة (الإخوان المسلمين)، إنها نقض عهد الولاء ضمن الحيز القريب، غير المتوقع، ولهذا كان التصرف حيالها يحتاج إلى اتباع وسائل متعددة، تنوس بين الحزم والليونة، لضمان ألا يتسبب صراع الأخوة في تدمير بنية النظام وطبقاته.

ربما تكون ثورة 2011 أخطر تهديد وجودي واجهه النظام طيلة سنوات حكمه القاتمة، فهي تدمير شامل للولاء الذي بناه وحصّنه، لكنه رغم خساراته المتتالية، اشتغل على تكثيف المفهوم أكثر فأكثر، كما فعل الأسد الأب ليصبح متعلقاً بشخصية الدكتاتور الابن، وهنا صار مجرد التفكير، أو احتمال تقبل فكرة، أن يترك بشار الأسد كرسي الحكم، هما خيانة، تستحق العقاب!

يمكن تشبيه هذا الولاء بحفنة البلورات في الساعة الرملية، فهي تهبط للأسفل مع بدء كل دورة زمنية. لكنها تتجمع فيه، استعداداً لبدء جولة جديدة، وإذا حاولنا مقاربة ولاء نخب النظام بهذا الرمل، يمكن القول إنها لا تغادر حيزه، لكنها تتسرب بسبب أزماته وعلى الأقل تمارس الصمت حياله، فهي غير راضية، لكنها لا تصل إلى الحد الأقصى من الانفصال عنه.

وضمن هذه المعادلة المقبولة إلى حد ما، في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها النظام، يصبح لافتاً أن يسعى أحد ما محسوب على النخبة، إلى إعلان ولائه، كما فعل باسم ياخور منذ يومين، فقد ذهب إلى جذر مفهوم الولاء الأسدي، دون تزويقه بالحديث عن الوطن وسلامته.. إلخ.

إذا كان تجذر الولاء يقوم على المصالح في جانب كبير منه، فإن مخالب متعددة نشبت في الأدمغة؛ كالخوف، والانتماء المصلحي والطائفي على حد سواء

السؤال الذي ظل يطرح منذ سنوات الثورة الأولى كان يتعلق بالأسباب التي تبقي هؤلاء الفنانين، ممن يزورون بلاداً أخرى، ويلتقون بأشخاص آخرين، يوالون نظاماً متخلفاً ورجعياً وقاتلاً؟

إذ صدم الجمهور بالتباين الهائل، بين موقفهم وبين الأفكار التي كانوا يطرحونها في أعمالهم، فإذا كان تجذر الولاء يقوم على المصالح في جانب كبير منه، فإن مخالب متعددة نشبت في الأدمغة؛ كالخوف، والانتماء المصلحي والطائفي على حد سواء، وكذلك تعلق العبد بسيده، أو حب المقموع للقامع. كلها، تؤدي إلى تفاسير مقبولة، لا يمكن الجزم فيها، إلا من خلال إخضاع أصحابها إلى جلسات فحص نفسي، وهذا شيء لا يتعلق بالأفراد فقط، بل يصل في مداه إلى جماعات بشرية كاملة.

وفي السياق ذاته، يمكن فهم الغضب الذي تبديه النخب المعارضة، من قيام بعضهم من المثقفين العرب بإقامة علاقة مع النظام، فبعد أن تم تجريده من كل مقومات الرشد في الحكم الذي يصلح لقيادة الدولة والمجتمع، لن تكون العلاقة معه بوصفه حصن الأسديين، سوى تصريح ولاء متأخر، لا يعلنه إلا من يعيشون في أزمنة بائدة.