للفقر مراتب أيضًا

2018.12.25 | 23:12 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في حوار لها مع وكالة الأنباء الألمانية حذرت النائبة الألمانية من حزب اليسار في ألمانيا "زابينه تسيمارمان" من خطر الفقر الذي يهدد نحو مليوني طفل داخل ألمانيا، وبما أن هذه الفترة من العام فترة أعياد تخص تقاليدُها الأطفالَ باحتفالية ومباهج وهدايا فإن النائبة تتحسر على أن من ضمن مؤشرات الفقر أن هؤلاء الأطفال لن يحظوا بهدايا ترضيهم وتفرحهم.

وتشير الإحصائيات بحسب المكتب الأوروبي إلى أن عدد العائلات التي لا يتجاوز دخلها 60% من معدل الدخل المتوسط قد ارتفع من 11,6% على 17,2% خلال ثلاث سنوات. أما مكتب الاتحاد الألماني لحماية الأطفال فقد صرح بأن هناك ما يقارب الـ4,4 مليون طفل يعانون من الفقر في ألمانيا، وهذا برأيه بمثابة "شهادة فقر لدولة غنية". 

قد يبدو الأمر مستغربًا لدى البعض بأن يكون في دولة مثل ألمانيا غنية وراسخة في اقتصادها أطفال يعانون من الفقر، وهو أمر نسبي، وقد يكون حجة لدى البعض الآخر يسخرها ليعزز مقولة أن كل الدول لديها مشكلاتها، أما نحن "في سوريا" فلا يعجبنا العجب ولا الصيام في رجب، وأن أطفال سوريا كانوا يعيشون في الفردوس المفقود لدى العديد من الشعوب والدول، بل إن الشعب السوري كان "عايش" فما الذي دفع بالبعض إلى جرجرة البلاد نحو الحرب والدمار بحجة "الثورة" لو لم يكن هناك مؤامرة على البلاد التي على ما يبدو كانت، بسبب استقرارها والأمان الذي يعم في أرجائها وينعم به مواطنوها، مثار حسد وغيرة من بعض الدول التي تنصب ستارًا حديديًا حول شعبها وتحرمه هواء التنفس إلاّ بمقدار؟ 

في الوقت نفسه جرت في دمشق بمناسبة أعياد الميلاد ورأس السنة، فعالية تحت عنوان "ملتقى طفولة المحبة والسلام" بالتعاون بين جريدة الحياة السورية وكنيسة الصليب المقدس بدمشق، ومشاركة شركات تجارية عديدة، جمع الملتقى عددًا من أطفال الجمعيات الأهلية "أطفال مصابون بالسرطان، وأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، وأطفال من دور الأيتام".

من حيث المبدأ فإن أي فعالية أو مبادرة أو فكرة تحقق الفرح ولو المؤقت لطفل أو أكثر هي خطوة جميلة ومباركة، فالطفل يستحق، ليس لحظة فرح هاربة فقط، بل يستحق أن يكون الهدف الأول في خطط الحكومات واستراتيجياتها وما تنوي تحقيقه لشعوبها، إذا كانت الشعوب هي الغاية والهدف، لكن المفارقة الكبيرة هي بين ما تحذر منه النائبة في البرلمان الألماني والمتحدث باسم المكتب الاتحادي الألماني لحماية الأطفال، وبين ما يقدم للطفل السوري، أو الحيز الذي يشغله أطفال سوريا في قائمة اهتمامات وأولويات الحكومة وأصحاب الشأن، سابقًا أو حاليًا في ظل الأزمة الشرسة المطبقة على حياة السوريين في كل مكان، في الداخل والخارج، في مناطق النظام والمناطق الخارجة عن سيطرته.

أطفال سوريا يحتاجون إلى خطط واستراتيجيات شاملة هادفة ومسؤولة

من الطبيعي أن يكون هناك اهتمام بالأطفال المصابين بأمراض تهدد سلامهم وتجرح طفولتهم وأحلامهم وترميهم في معاناة مريرة، وبالأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، وبالأطفال الأيتام، لكن المشكلة أكبر من هذه الاحتفالية الإشهارية التي يُراد منها كما جاء على لسان رئيسة الملتقى: الاحتفال بعودة الأمن والأمان إلى دمشق وسوريا بفضل "انتصارات الجيش العربي السوري". فأطفال سوريا، المحرومون من طفولتهم منذ عقود، بالرغم من الخطط والأهداف التي تحمل عناوين واعدة وطنانة، وبرغم ما كان يُصرف على حماية الطفولة والأمومة والنهوض بالأطفال على المستوى الصحي والتعليمي والاجتماعي والأسري، ويتبدد في أقنية ومسارب الفساد وهدر وسرقة المال العام، أطفال سوريا يحتاجون إلى خطط واستراتيجيات شاملة هادفة ومسؤولة، وليس أطفال سوريا هم فقط المرضى ومن ذوي الاحتياجات الخاصة والأيتام الذين يعيشون في دور الأيتام، مع التمسك بحقوقهم كاملة، أطفال سوريا موزعون بين الداخل والخارج، في بلدان اللجوء بين مخيمات تفتقر إلى الحد الأدنى من ضروريات العيش وبلدان لجوء أخرى يعاني منها الأطفال السوريون مشاكل أخرى بسبب غربتهم والفوارق الثقافية حتى لو حصل الطفل منهم على أساسيات الحياة، التي تعتبر رفاهية قياسًا بما كان يقدم لهم في بلدهم.

إذا كان الدستور الألماني يضمن الحقوق والحريات والكرامة، فإن الطفل يتميز أيضًا زيادة على هذا بحزمة أخرى من الحقوق، وتقدم الحكومة مساعدات للأهل من أجل تأمين احتياجات الطفل، الاحتياجات التي تبدأ منذ الطفولة الباكرة، بل منذ الحياة الرحمية وهو مجرد مشروع إنسان مستقبلاً، ثم يرسم الدستور خارطة طريق لهذا المشروع المهم والعزيز، حق الغذاء الكامل، حق الرعاية الصحية، حق المسكن المناسب، حق التعليم الإلزامي طبعًا حتى السادسة عشرة، مع توفير البنية التحتية للمدارس والكادر التعليمي والتربوي، والأنشطة الأخرى من رياضية وفنية وغيرها، وحق الرعاية الأسرية التي إذا قصر بها الأهل أو اعتدوا على حقوق الطفل واستخدموا العنف والتقريع في تربيته، أو كانوا مدمنين أو يعانون مشاكل تعوقهم في ممارسة دورهم في رعاية الأبناء، فإن القانون يحاسبهم وينتزع أطفالهم منهم ليوضعوا تحت رعاية دائرة الشباب.

المهم في الأمر أن غاية التنمية في تلك البلدان هو الإنسان، نظريًا وواقعيًا، وإذا كان كلام النائبة في البرلمان يدق ناقوس الخطر، فليس لأن هناك أطفال جوعى أو ينامون في العراء أو تنقصهم الرعاية الصحية أو فرص التعليم في الوقت الحالي، بل لأن هذه الفئة التي توصف بالفقيرة ينقصها الكمال بالنسبة إلى تحقيق المستوى المنشود من حقوق الطفل كما هي الصورة المعيارية. لكن نظامًا ديموقراطيًا يقوم على أساس تداول السلطة من منطلق المسؤولية الجماعية والواجب الوظيفي وليس على أساس الاحتكار والتشبث بكرسي السلطة إلى الأبد وفرض النموذج الوحيد بالقوة وبطريقة تفتقر إلى الشرعية، ولديه معارضة سياسية تتابع أداء حكومته وترصد أخطاءها وعثراتها وخططها وقراراتها، هذا النظام يرصد الواقع ويستشرف المشاكل ويدعو إلى دراستها ووضع الحلول قبل أن تستفحل.

المتوفر من إحصائيات عن واقع الأطفال في سوريا الحالية يثير الهلع من مستقبل هذه البلاد

في الوقت عينه فإن المتوفر من إحصائيات عن واقع الأطفال في سوريا الحالية يثير الهلع من مستقبل هذه البلاد، في سوريا أيتام لا يُعدون بسبب الحرب، وفيها مرضى لا يُعدون بسبب عدم توفر الخدمات الصحية في العديد من المناطق، وإن توفرت فمقدرة الأهل على تأمينها معدومة. في سوريا غالبية الناس صاروا على حافة الجوع، ومنهم جوعى بالفعل، إلاّ من تاجر بقوت الناس وأمنهم وجمع ثروته على حساب الأرواح والدماء، ومن حيتان الفساد السابقين، في سوريا عدة ملايين، وليس آلاف، من أطفالها خارج المدرسة، وفي غالبيتهم مرميون إلى بازارات العمل الرخيص المؤذي لكرامتهم وأرواحهم وأجسادهم، فيها أطفال الشوارع الذين ينامون في الحدائق وخلف الحاويات ويستنشقون "الشعلة"، فيها أطفال ينبشون الحاويات للعثور على فضلات يمكن أن تسد رمقهم، وفيها أطفال هائمون مشردون لا يعرفون أن لهم أسرًا وإلامَ ينتمون، يعيشون غربة واغترابًا عن الحياة وفيها.

أطفال سورية جعلت منهم الحرب ذوي احتياجات خاصة إلاّ القليل منهم، فغير العاهات الجسدية الدائمة التي أحدثتها لدى شريحة كبيرة منهم، قنصتهم هذه الحرب من الطفولة ورمتهم في الكهولة وسني اليأس، بعد أن فقدوا كل حقوقهم في الحياة أطفالاً، ليفقدوها مرة أخرى وهم كبار. حتى مفهوم العيد صار بعيدًا عن إدراكهم، كما الهدية، إنهم الضحايا الأكثر إيلامًا، لأنهم لا يدركون بعد أنهم الضحايا، وستمرّ عليهم الأعمار جبارة ليدركوا هذه الحقيقة متأخرين، حقيقة حياتهم التي سلبت منهم، وأن للإنسان حقوقًا منذ أن يصرخ الصرخة الأولى، سيدركون متأخرين وهم يشهقون بعد أن تصير الأعمار وراءهم، بعيدة بعيدة.

سوريا بحاجة إلى بناء الأسرة من جديد حتى تستطيع أن تساهم في بناء الأجيال، وبناء الأسرة يحتاج قبل كل شيء إلى تأمين مقومات الحياة الكريمة، لأن الإنسان مهدور الكرامة لا يمكن أن يساهم في صناعة الحياة، وهذه العناوين البراقة الإشهارية تجرح مشاعر المقهورين وتمعن في تكريس ظلمهم.