هل تعقد الجزائر العزم على ربيع آخر؟

2019.03.23 | 23:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لا شك أن جميع مؤيدي الحرية والعدالة، في العالم عموما وفي الوطن العربي خصوصا، يضعون أيديهم على قلوبهم جزعا، وهم يراقبون تطورات الربيع الجزائري الوليد. إذ على الرغم من أن عمر هذا الربيع لم يزد كثيرا عن الشهر بعد، فإن ذلك الجزع ما زال بازدياد !.

ومرد ذلك إلى أن هذا الربيع كان قد استحق الإعجاب الكبير، الذي أحيا الآمال بالربيع العربي المنتكس في معظم أقطاره، وذلك ليس بسبب المشاركة الواسعة التي شملت فئات عديدة من المجتمع الجزائري وتياراته السياسية المختلفة فضلا عن أغلبية شبابية حاسمة من الجنسين، كما انضمت إليه، وما زالت تنضم باستمرار أعداد متزايدة من المسؤولين السابقين وكوادر حزب جبهة التحرير وبطانة حلفه الحاكم، فيما أصبح يدعى بظاهرة الانشقاق عن السلطة، بل إنه نال الإعجاب أكثر من ذلك، ليس بسبب الطابع السلمي الذي عبّرت عنه الاحتجاجات المستمرة والمتعاظمة لملايين الحزائريين، تلك التي شهدتها مظاهراتهم فقط، بل بسبب موقف السلطة الجزائرية أيضا، وحياد أجهزتها المتمثلة في الأمن والشرطة والجيش حتى تاريخه، على الرغم من بعض التصريحات والإنذارات التهديدية التي برزت في بداية الأحداث، وما لبثت أن تراجعت أو غابت مؤخرا!

وعلى الرغم من كون ذلك الطابع السلمي قد ذكّر بطابع احتجاجات الربيع العربي الماضي في أكثر من قطر، وبينها مصر و سورية بخاصة، لكن المفارقة المؤسفة في هذا المجال، كانت نسيان كثيرين لحقيقة ذلك الطابع الذي اعترفت السلطة السورية نفسها باستمراره لأكثر من ستة أشهر، كما تجاهلوا الفرق الصارخ بين موقف السلطة الجزائرية وموقف السلطة السورية، حيث تميزت  الأخيرة بضبطها التقليدي للمجال العام، وتقييدها الدائم للحريات العامة، الأمر الذي سهّل لجوءها إلى العنف وإطلاق الرصاص ضد المتظاهرين، وصولا إلى اعتقال المصورين ومسعفي الجرحى، فضلا عن المتحدثين والصحفيين وتغييبهم أو نفيهم، ثم اشتغالها بدأب على توظيف السلاح الطائفي والإرهابي ضد ذلك الربيع السلمي، وتتويج ذلك بطلب التدخلين الإيراني والروسي اللذين شاركا في تدمير وسورية واحتلالها، الأمر الذي أدى إلى أكبر كارثة تهجير ونزوح مشهود في العصر الحديث. بينما سمحت الديمقراطية والتعددية النسبية الجديدة في الجزائر، مع هامش مشهود لحريات الإعلام المحلي والدولي، بفضح المحاولات الأولى التقليدية لاتهام المتظاهرين بالمغامرة والتآمر، وبعرض المشهد السلمي لحراكهم في مواقف متآلفة مع  أجهزة الشرطة والأمن، وذلك ضمن حدود القانون والحفاظ على النظام العام، بصورة عكست مسارا مناقضا كليا لمسار الانقلاب على الديمقراطية الذي تسبّب في محنة العشرية السوداء.

موقف أجهزة السلطة الجزائرية السلمي الجديد، لم ينجح مع ذلك في ملاقاة مطالب حركة الشارع والحوار معها

لكن موقف أجهزة السلطة الجزائرية السلمي الجديد، لم ينجح مع ذلك في ملاقاة مطالب حركة الشارع والحوار معها، إن لم يكن الاستجابة لها حتى تاريخه. وقد بدأت تلك المطالب كما هو معروف برفض العهدة الخامسة للرئيس بوتفليقة، كما أعلنتها مظاهرات يوم  22 من شباط الماضي (الجمعة الأولى)، لكن تراجع الرئيس عن الترشح، والذي اقترن بوعود إصلاحية لم يقم بها خلال دوراته الرئاسية الأربع السابقة، قوبل بالرفض وتطور إلى المطالبة برحيله مع النظام وجميع رموزه. ولم تجد نفعا مناورة الطغمة الحاكمة حول الرئيس وصورته العاجزة، في محاولتها الاستنجاد بمكانة الأخضر الإبراهيمي وسمعته الدولية ، وترشيحه لترؤس الندوة الوطنية المقترح، إلى جانب تكليف وزير الداخلية بتشكيل حكومة كفاءات سياسية وغير سياسية  تشرف على تنفيذ برنامج السنة الانتقالية الموعودّ.

وقد تبدى هذا الرفض بكل وضوح في استنكار الجماهير الجزائرية وخروجها مجددا في مظاهرات أكبر وأشمل من كل المظاهرات السابقة، وذلك يوم 15 من فبراير (الجمعة الرابعة)، التي ترددت لها أسماء تراوحت بين جمعة الكرامة وبين جمعة الحسم، وكان أبلغ شعاراتها: نعم للرحيل لا للتمديد، تعبيرا عن رفض المناورة الجديدة للسلطة. لكنه تطور ليشمل تصريحات تيارات ومنظمات جزائرية متعددة، مما دل على تصدعات في حلف السلطة نفسها، وعلى انتشار حركة الاحتجاج وعموميتها،  وكان من بين ذلك البيانات  الصادرة عن عدد كبير من النقابات المستقلة،  وعن محافظي حزب جبهة التحرير  ومنسقها (معاذ بوشارب)، وعن تجمع القضاة الرافضين للتدخل في استقلالية القضاء في مواجهة المتظاهرين. وحتى معظم حلفاء النظام الذين بدؤوا التنصل من المسؤولية عن مساره، كما صرح بذلك أحد مسؤولي التجمع الوطني الديمقراطي أكبر حلفاء حزب جبهة التحرير وأحد شركائها في الحكم، بأن قوى غير دستورية كانت تتحكم بمسيرة النظام طوال السنوات الأخيرة (صادق شهيب على قناة فرانس 24 يوم 22 آذار ). فضلا عن مسارعة أحمد أويحيى الأمين العام لذلك التجمع ورئيس عدد من الحكومات السابقة، إلى تأييد مطالب الشارع الجزائري، والتنصل من أدواره السابقة!

أجمعت تلك المواقف على المطالبة برحيل جميع وجوه السلطة وبطانتها الحاكمة

وقد أجمعت تلك المواقف على المطالبة برحيل جميع وجوه السلطة وبطانتها الحاكمة، منسجمة بذلك مع شعارات شعبية، شاع تداولها وانتشرت على كثير من الوسائل والأصعدة، ولخصتها الجمعة الخامسة التي حملت اسم (جمعة الرحيل). الأمر الذي اعتبر بمثابة اقتراع شعبي عام على الدعوة لقيام جمهورية جزائرية ثانية، بديلة عن الجمهورية الأولى التي تسنمها حزب جبهة التحرير بعد الاستقلال،  واستمر في السيطرة عليها عبر جيلي الاستقلال وما تلاه حتى اليوم!

وبهذا التطور والإجماع الواضحين، تبين أن حركة الشارع الجزائري، لا تنطلق فحسب من موقف سياسي مؤقت استجاب لمشاعر الكرامة الرافضة لعهدة رئيس طال عجزه، وتحالفت حول صورته طغمة من رجال الأعمال والعائلة ومؤسستي الجيش والأمن، بل انطلق من رفض شامل للمسار الذي أعقب محنة العشرية السوداء، وكثيرا ما تغطى بذريعتها في ظل رخاء اقتصادي ريعي اعتمد على بيع النفط والغاز، ثم تكشف عن تدهور مريع إثر انهيار أسعار النفط، ففشل في إدارة تنمية تستجيب لحاجات شعب بلغ تعداده أربعين مليونا من السكان، حوالي 70% منهم من الشباب الذي لا يتجاوزون 30 عاما، ثلثهم في بطالة نموذجها  شباب (الحيطست) الذين يسندون الحائط. لكن النظام استمر في مواجهة تلك الحاجات وتحدياتها، بفساد معمم، احتمت به واستثمرته بيروقراطية متحكمة، كان الحصول في ظلها على سجل تجاري، يتطلب ما يزيد عن 18 وثيقة، مما أدى إلى نزوح الطاقات الوطنية، وعزوف الاستثمارات الخارجية على الرغم من توفر ثروات باطنية عديدة وطاقة شمسية مديدة، فضلا عن قطاعي النفط والغاز الشهيرين.

وإذ تستمر أزمة الربيع الجزائري الحالية، فلا يسع الحريصون على مستقبل الجزائر إلا أن يأملوا بازدهار هذا الربيع وحل مشكلاته حواريا وسلميا، بعيدا  عن التناقض الصريح بين مطالبه والمناورات المترددة والمرتبكة للسلطة الجزائرية!.