جاسم ينضم إلى الثوار

2020.04.29 | 00:00 دمشق

1bjgj6syh4pnkyarfp6wcul5cpl4xkqltozxqtxg.jpeg
+A
حجم الخط
-A

بعد حوالي أسبوع من نقلي إلى مهجع القبو في السجن المركزي بحمص (والذي كان قد أغلق لتهالكه وصار برسم الهدم، لكن مع تراكم معتقلي الثورة، فقد أعيد فتحه على عجل وخصص لهم) أتى من يخبرني هامسا عن إدخال طفل مع معلمه إلى المهجع، وذلك على عادة السجناء بإخباري عن كل ما يهم حقوق المعتقلين، استنادا إلى سمعتي كناشط حقوق إنسان.

وسرعان ما واتتني الفرصة لرؤية الطفل، لحظة طلب الشرطي المناوب تنفيذ التأمين اليومي في الباحة.

هناك تجمعنا واقفين بانتظار المناداة على أسمائنا للدخول واحدا تلو الآخر، حيث يتم ضبط عددنا وتفقد الحضور والغياب. وعلى ضوء القمر الكاشف تبين لي وجود الطفل والشاب اللذين جرى الحديث عنهما.

كان الطفل النحيل جالسا على الأرض، وانتبهت إلى أنه يدخن، فسألت الشاب الذي بجانبه، ما قصتكما ولماذا تركته يدخن وأنت معلمه والمؤتمن عليه؟ رد علي ضاحكا: الله وكيلك هو يدخن من قبل، كما يعرف كل شي!!

عندما تبينت وجه الطفل، تذكرت فورا ذلك الطفل الذي وصلني صوت آهاته وبكائه عبرالباب الحديدي لمنفردتي في الأمن السياسي قبل حوالي أسبوع. حين رأيت من شق الإطار الحديدي للثقب المسمى نافذة، ولدا عاري الصدر ناحلا، يمسك عصا ممسحة، وينحني عليها بحركة دورية، وهو ينشج!

سألت الطفل: هل أنت من كانوا يجبرونه على مسح ممر منفردات الأمن السياسي قبل حوالي أسبوع؟ أجابني نعم أنا هو، أنا جاسم؟

في الأيام التالية، صار الطفل المذكور يتجول كثيرا بين المهاجع، ونظرا لطوله وخفة وزنه، أصبح بعض المعتقلين يعتمدون على حمله ورفعه، كي يستطيع الوصول إلى شق في نافذة الممر الذي يفصل بينهم وبين السجناء العاديين (أو الممتازين في الواقع بالمقارنة معنا) في قسم السجن الجديد، ليشتري لهم ما كانوا محرومين من الوصول إليه مباشرة، وهو بالأصل من حقوق السجين العادية، كالشراء من الندوة، أو المطعم، أو الاستفادة من المكتبة وقاعة الرياضة والكومبيوتر والهاتف ذي الحصالة إلخ.

هكذا صار الطفل: جاسم ... رسولهم إلى التسوق المجاور، وانتبهت إلى أنه كان يتكسب من ذلك عندما أحضر لي مرة ما كنت قد افتقدته من الخيار والبندورة، فلاحظت زيادة في الثمن، وعندما سألته عن ذلك، قال لي ضاحكا: بدنا نعيش أستاذ!

تبينت عند جاسم فطنة وذكاء عمليا طريفا، وتدبرت له مكانا للنوم في مهجعنا، فقرّبته من مجموعتنا، ودعوته لتناول الطعام معي أحيانا، وهو ما كنا نتسلمه من المطبخ ونجري عليه بعض التحسينات المميزة، فصار يأنس لي، خصوصا بعد أن حميته مرارا من عنف بعض الشرسين من حولنا، وما كان أكثرهم في ظروف السجن المتوترة.

وشيئا فشيئا، حكى لي جاسم قصته، فهو أخ كبير لستة أطفال يسكنون مع والدهم المريض والبارك دوما لشرب الشاي والسوالف، بينما تعمل والدته في تنظيف المنازل، وهو من عمر الثانية عشرة، وفي الصف السادس الابتدائي، يعمل ليلا في معمل للبوظة ويتقاضى عن كل ليلة 50 ل.س، تجمع له في نهاية كل أسبوع فيسلمها لوالده. وأذكر أنني قمت بحساب المبلغ شهريا بضربه بـ 30 يوما، لكن جاسم صحح لي فورا، بأن مجموع المبلغ الشهري أقل مما حسبت، نظرا لأنه لا يعمل أيام الجمعة. وعندما سألته كيف يذهب صباحا إذا إلى المدرسة بدون نوم؟ أجابني: أستاذ إذا كان دوامي بعد الظهر فأنا أنام ثم أذهب إلى المدرسة، أما إذا كان دوامي صباحا، فأنا أذهب مباشرة إلى المدرسة، أجلس في المقعد الأخير وأنام كذلك، متبعاً ذلك بضحكة. هاي حالتنا أستاذ بدنا نعيش، شو لازمك اليوم من الندوة فوق، مشيراً باصبعه إلى نافذة الممر المعروفة؟

تحدثت كثيرا مع جاسم، ومنعته من استخدام السجائر مرارا، محذرا من ضرر الدخان على صحته، خاصة مع سنه ونحوله، وأضلاع صدره البارزة، وكان يضحك، ويخفي بحيل متعددة، علب السجائر التي يتاجر بها أيضا، وكنت أغض النظر أحيانا كي أخفف من التوتر معه، كما كنت ألحظ بكاءه أحيانا عند انزوائه قبيل النوم!

وعندما امتحنت مستوى كتابته بطلب كتابة اسمه وعمره وبعض الجمل على دفتري، لاحظت أنه معقول بالنسبة لمستوى التعلم في بيئته.

وفي سهراتنا كل مساء، كان يطيب لجاسم أن يستند إلى ركبتي ويستمع إلى حلقة نقاشنا المنعقدة مع قصصنا وحواراتنا حول الثورة، فيردد: والله ما عم أفهم شيء عليكم أستاذ، بس قل لي ليش حبسوني معكم؟ وغالبا ما كان ينام إلى جانبنا، فنحمله إلى مكانه وبطانيته!

أما قصة اعتقاله وزميليه، فكانت جد بسيطة، ذلك أنهم تأخروا في المعمل صباح ذلك اليوم من أواسط أيار، ومن سوء حظهم أنه كان يوم جمعة، فعندما خرجوا إلى الشارع وقبيل موعد الصلاة بساعات، كان رجال الأمن يعتقلون كل من يصادفهم في الطريق لإشاعة الرعب والوقاية من التجمعات، لذلك حصدتهم إحدى الدوريات الأمنية العاجلة، وبدون قليل أو كثير من التدقيق، انتهى بهم الأمر ضمن زحام الاعتقالات إلى السجن!!

خلال ما يقارب الشهر على دخول جاسم، صارت حركته بين المهاجع وتجارته بين السجنين حديث السهرات، حتى إنني قلت لزملائي: والله هذا الولد ذكي، إما أنه سيصبح رجلا بارزا ومتفوقا، أو سيصبح منحرفا كبيرا ضمن الجو الذي يحيط به، الله يحميه!

وبعد حصوله على بعض الأخبار من أهله عن إخلاء سبيله المتوقع، جاء ذات ليلة ليقول لي: أنا غدا سأخرج أستاذ، أعرني دفترك الذي كتبت لك عليه، وعندما أعاده لي، قرأت الكلمات التالية التي كتبها بخطه، ومازالت مع الدفتر محفوظة لدي:

 أنا أحبك يا أستاذ ........ تقدم بنا إلى الأمام. الموت ولا الحياة الردية، الموت ولا المذلة اعتصام اعتصام.... حتى يسقط النظام...

مع التوقيع

كلمات مفتاحية