وفي الاعتقال ما يضحك وما يبكي!

2020.05.11 | 00:02 دمشق

f9e6248aaf542040022b4ea5b5f5fcbe_xl.jpg
+A
حجم الخط
-A

نجاتي طيارة : و في الاعتقال ما يضحك وما يبكي!

قصص الاعتقال السياسي وانتهاك حريات التعبير عن الرأي وباقي حقوق الإنسان والمواطن طاغية على طول تاريخ نظام المجرم الأسد الأب والابن، ومعظمها يستحق كل إدانة وعقاب، بصفتها فظائع ترقى إلى مستوى جرائم الحرب، وجرائم ضد الإنسانية. بخاصة منها ما ارتكب في مجازر سجن تدمر وحماة وخلال مجريات الثورة السورية، لكن هناك قصص اعتقال عديدة أخرى تخللت ذلك التاريخ، بخاصة في بدايات الثورة، عندما كان النظام مرتبكا بين ادعاء الشكليات القانونية، وتجاوزها كليا. وهي قصص ربما تبدو بسيطة وصغيرة، قد يثير بعضها الضحك، كما قد يثير بعضها الآخر البكاء، لكن هامشيتها نفسها أو اعتباطيتها بالأحرى، تكشف عن فداحة ما قام به النظام، في استباحة حياة وأمن السوريين، وما أطلقته تلك الاعتباطية أوالاستباحة من توترات فردية وعصبيات جمعية انحطّت بالسوريين جميعا، وعززت بالتالي ثقافة كراهية ومظلوميات صارت بالتالي سلاحا ماضيا بيد كل أعداء المواطنة السورية.

وفي القصتين الصغيرتين التاليتين،  ربما خير مثال على ذلك! . .

1ـ كيف صار الكفيف قناصاً ومعتقلا ؟

على عادة من حولي من معتقلي مهاجع القبو في سجن حمص المركزي، بإخباري حول ما يهم حقوق الإنسان من شؤون الاعتقال المفارقة أوائل أشهر الثورة السورية، أتى من قال لي ذات مساء: إن هناك معتقلا جديدا قصته غريبة. فذهبت معه إلى المهجع الثاني، حيث أُدخل صاحب تلك القصة، وهو كما بدا لي، شابا في نحو الثلاثين من العمر، متوسط القامة، مستكينا كأنه مستسلم لقدر مفروض، شعره وأهدابه تكاد تكون صفراء فاتحة أوتميل إلى البياض، ولكأنه مصاب بالبرص.

عندما سألته عن أسباب اعتقاله وقصته: حكى لي أن اسمه عبد الله ....  ، من قرية (...) التابعة للمعرة. وأنه كان خارجا من بيته إلى دكان يعمل ويتسلى فيها كل يوم،  وهكذ كان ماشيا يومها قبيل الظهيرة، إلى  يمين الشارع كعادته، وإذ بسيارة تتوقف وينزل منها رجال يدفعونه ويحملونه فورا إلى السيارة رغم صراخه واحتجاجه وسؤاله عن السبب.

 عندما وصلت السيارة إلى مقرها، وُضعت طماشة على عينيه، ورُبط كفاه إلى الخلف، ثم  دُفع به إلى داخل البناء، فبقي ساعات واقفا ووجهه إلى الحائط، قبل أن يُؤخذ إلى محقق، أخذ ينهال عليه بأسئلة متلاحقة وهو يضربه بعصا تارة، أو يصفعه على وجهه بكلتا يديه تارة أخرى. أما الأسئلة  المتكررة باستمرار، فكانت عن كونه قناصاً قتل العديد من المارة ورجال الأمن والشرطة، بينما كان هو ينفي مستغربا ومذهولا باستمرار، ويحلف أن لا علاقة له بكل ذلك. وهو عمره لم يحمل بندقية صيد حتى، ولم يؤذ أحداً بطبيعة الحال،..  بعد أن استمر المحقق في ضربه وتكذيبه، وبعد سقوطه أرضا عدة  مرات، وجد نفسه، يشهق من الألم والخوف، ويقول: مثل مابدّك سيدي خلص أنا قنّاص، أنا قنّاص، مثل ما بتريد سيدي، بس الله يخليك خلص خلص !.

قصص الاعتقال السياسي وانتهاك حريات التعبير عن الرأي وباقي حقوق الإنسان والمواطن طاغية على طول تاريخ نظام المجرم الأسد الأب والابن، ومعظمها يستحق كل إدانة وعقاب، بصفتها فظائع ترقى إلى مستوى جرائم الحرب

عند ذلك أجلسه المحقق على مقعد صارخا "أقعد لكان، هيك بنعرف نتفاهم".  سمع  بعدها أصوات أقدام تتحرك وبابا يغلق. وبعد وقت، ما لبث أن سمع صوتا آخر يصرخ به: ولك قنّاص، شو قنصت؟ رد عبد الله شبه باك ٍ: كل شي سيدي، كل شي. فصرخ به صوت المحقق الجديد: يعني شو؟، قنصت  سيارة شرطة، سيارة دورية، سيارة مدنية، ناس كيف ما كان؟ هيك ولاه؟  أجاب عبد الله مرتبكا ومبتعداً برأسه إلى الخلف نعم سيدي نعم .. فسأله المحقق صاحب الصوت الجديد: كم واحدا قنصت إذن جاوبني؟، رد عبد الله، وقد استعاد شيئا من هدوئه بعد مضي فترة بلا صفعات ولا ضرب: ولا واحد سيدي!.. فصرخ به المحقق: كيف ولا واحد ولاه؟ كيف وأنت قناص اعترفت !.

أجاب عبد الله: سيدي مانك شايف أنا كفيف لا أرى جيدا، أرى فقط خيالات،  كيف تريدني أن أقنص؟

في هذه اللحظة، شخصيا فوجئت وأنا أستمع له، إذ أنني رأيت عينيه شبه المعمشتين بأهدابهما الفاتحة، ولم أتوقع كونه كفيفاً، لذا لوحت بكفي أمام وجهه، فلم تتحرك عيناه ابدأ..فما كان مني إلا أن قلت: أعوذ بالله من هذا النظام، ولماذا أنت هنا إذن وأتوا بك إلى السجن؟  رد عبد الله: لم يتغير شيء! فرغم دهشة المحقق الثاني من توقيفي، جرت إحالتي إلى المحكمة العسكرية، وقالوا أنها وحدها التي تستطيع، ويمكن لها أن تفرج عني!!. ولما لم تكن في منطقتنا مثل تلك المحكمة، فقد أحالوني إلى هنا حيث تتوفر.

ولم يطل الأمر بالمحكمة طبعا، إلا أن أفرجت عن عبد الله، الذي كان اعتقاله فضيحة بكل المقايسس.

2ـ كيف صارالاعتقال مجرد خسائر حربية !.

في يوم آخر، وصل إلى مهاجعنا خمسة شبان آخرين، كانوا قد تعودوا اللقاء ظهيرة يوم الجمعة، للتسلية وهربا من بيوتهم وضجيجها قبيل إعداد وجبة الغداء، كعادة ذكورية شائعة!  فداهمتهم فجأة دورية أمن، وأمرتهم بالصعود إلى شاحنتها التي كانت مليئة بمعتقلين آخرين!. وعندما احتج الشبّان مستغربين اعتقالهم، كان جواب قائد الدورية صارخا: ماذا تفعلون مجتمعين هنا يوم الجمعة، أكيد أنتم تستعدون للحاق بالمظاهرة!

وملتفتا إلى عناصره قائلا: يالله كمل العدد، المعلم قال لاترجعوا بأقل من خمسين واحد.. هه.

وعندما صرخ أحدهم: ياعمي نحن ليس لنا علاقة بالمظاهرات، نحن نلعب طاولة مثل ماترون !.

كان جواب قائد الدورية: "يالله بلا كثير حكي بسيطة أحسبوا حالكم خسائر حربية" !.

ولم يطل الأمر باثنين من أولئك الشبان أيضا، فقد خرجا لاحقا، وطبعا بعد  تمكنهما من كفالة ودفع وإحالة بتهم مزعومة إلى المحاكمة. لكن من خرج منهم سريعا، ومن تأخر منهم وظلم أكثر، سرعان ما تعلم الدرس. ولاشك لدي بأنهم قد انضموا جميعا إلى جمهور مظاهرات لاحقة ! .