من نظام الملّة إلى نظام المكوّنات

2019.11.24 | 16:11 دمشق

shar_aldwlt_althmanyt.jpg
+A
حجم الخط
-A

خرجت الدولة العثمانية من بلادنا قبل مائة عام، لكنّ آثارها لم تخرج بعدُ، فما زال الحلمُ يراود بعض الإسلاميين بإقامة إمبراطورية إسلامية في المشرق، وما زال بعضهم يرغب في إعادة بعض الأنظمة العثمانية إلى حيّز التنفيذ، كنظام الـمِلّة العثماني.

ونظام الملّة هو النظام الذي كانت تتمثّل عبْرَه الطوائف غير المسلمة (اليهود والمسيحيون) في الدولة العثمانية. وهو نظام ديني ذو بعد سياسي، إذ يتبعُ جميعُ أبناء الديانة اليهودية أو المسيحية إلى حِبْرين أعظمين مقرُّهما في القسطنطينية، هما "حاخام باشي" و"ملّة باشي". كما كان لهذا النظام بُعدٌ اقتصادي، فالكنيسة هي المسؤولة عن جمع الضرائب من رعاياها. ولقد ترسّخ هذا التمثيل الطائفي أكثر خلال فترة "التنظيمات"، وأخذ أبعاداً اقتصادية وسياسية وثقافية أكبرَ مع تدخُّل الامبراطوريات الروسية والفرنسية والبريطانية فيما عُرف حينها بـ "المسألة الشرقية"، وصولاً إلى "فتنة" أو "طوشة" 1860 التي كانت نتيجةً وسبباً لصراع القوى الأجنبية على اقتسام الدولة العثمانية.

وإنْ كان نظامُ الملّة جيّداً ومقبولاً بالنسبة إلى زمنه، حتى إن فيلسوفاً بحجم جون لوك قد أُعجبَ به في "رسالة في التسامح"، وطالب باستيراده وتطبيقه في بريطانيا التي لم يكن فيها نظامُ تمثيلٍ مشابهٍ للأقليّات الدينية؛ فإنّ نتائج هذا النظام ما زالت تُلقي بظلالها علينا حتى اليوم. ومن آثاره السلبية -في رأيي- هو أنه يحوّل بعضاً من أبناء دينٍ ما أو مذهبٍ دينيّ ما إلى طائفةٍ سياسيّة تدّعي تمثيل جميع أبناء ذاك الدين أو المذهب، وهذا التمثيل يختصر الإنسان ببُعده الاعتقادي أو نسب الولادة فقط. وربما بسبب هذا النظام التمثيلي ما زال الغربُ ينظر إلينا كمجموعة من القبائل والطوائف المتناحرة، ويتوهّم أنّ كل جماعة من هذي الجماعات متناغمة ومتجانسةٌ في داخلها ككتلةٍ واحدة، وأنها متمايزةٌ بالكامل عن الجماعات الأخرى. ومن النتائج السلبية أيضاً أنّ حركات الإسلام السياسي ما زالت ترى علاقة الفرد بالدولة من خلال نظام الملّة العثماني، فلا تعتبرُ غيرَ المسلمين مواطنينَ متساوين مع غيرهم في الحقوق والواجبات، بل "أهل ذمّة" أو "أهل كتاب" لهم حقوقهم وواجباتهم من المنظور الإسلامي.

الأنظمة التي حكمتْ سوريا منذ الانتداب حتى اليوم، لم تستطع أن تبني هويةً وطنية تجمعُ السوريين

وبما أن الأنظمة التي حكمتْ سوريا منذ الانتداب حتى اليوم، لم تستطع أن تبني هويةً وطنية تجمعُ السوريين تحت سقف انتماءٍ وطنيّ يعلُو فوق الانتماءات تحت الوطنية (Sub-national)، فكان نظامُ البعث يصرخ بشعارات القومية العربية من المحيط إلى الخليج، وهو غير قادر على إيجاد رابطة وطنية على صعيد البلد الواحد، أو حتى بين مدينة وريفها. ومَعَ تفريغ البلاد من العمل السياسي وحصره بالحزب الواحد الذي تحوّل إلى ما يشبه جهاز المخابرات، بالترافق مع إعدام المجتمع المدني وربط النقابات بالحزب الأوحد، ولكلّ ما سبق ذكره؛ ظلّتْ هوياتُ ما قبل الدولة حيّةً تُرزق، تكبُر وتتضخّم تحت زعيق الشعارات الوطنية والقومية، حتى انفجرت في آذار 2011.

لقد طفحَ الخطابُ الطائفي على انتفاضة السوريين منذ بدايتها، ولا أقصد به الكلام المسيء عن جماعة بشرية ما، بل أقصد الكلام الحسَنَ والكلام المسيءَ معاً، أو بالأحرى النظرة إلى الشعب كمجموعة من الأعراق والطوائف والعشائر، أو هي "مكوّنات الشعب السوري"، كما يُقال في خلطٍ عشوائي بين مفاهيم العرق والإثنية والقومية والدين والمذهب الديني والطائفة والعشيرة والقبيلة، وكلُّ واحدٍ من هذه المفاهيم يحتاج شرحُه إلى كتاب. فصرتَ تلاحظُ في التجمُّعات السياسية التي ظهرت بعد آذار 2011، أنهم يتقصّدون تمثيل "مكوّنات الشعب" على أساس انتماءاتٍ تحت-وطنية كالعِرق والدين والمذهب والعشيرة، وفي خلط ضبابيّ بينها. وغالباً ما يكون هذا التمثيل شكلياً لا فعلياً، وغالباً ما يكون الواحدُ من هؤلاء الممثِّلين (بكسر الثاء) بالكاد يمُونُ على زوجه وأولاده، فما بالكَ بادّعاء تمثيل جماعة بشرية فيها من التنوّع والاختلاف والتناقض ما لا يُحدّ؟

وإذا أخذنا "الائتلاف" كواحد من أكبر أجسام المعارضة، وهو الجسم الذي حظيَ باعترافٍ ودعم دوليّين، ونظرنا في قائمة مكوّنات الائتلاف، سنجد ما يُسمى "المكوّن القومي" الذي يضمُّ ثلاثة "مكوّنات" أيضاً هي "المكوّن التركماني" و"المكوّن السرياني الآشوري" و"المجلس الوطني الكردي"، ولكل "مكوّن" منها صفحة تعريفية به تحوي بضعَ معلوماتٍ من ويكيبيديا مع بعض الكلام الجميل عن اللُّحمة الوطنية. طيّب، لماذا لا يوجد تمثيلٌ مشابه للشركس والأرمن والأرناؤوط؟ سيكون الجواب بأن أعدادهم أقلُّ ممّن سبقَ ذكرهم. لكن حتى لو كان عددهم شخصاً واحداً فقط؛ فيجبُ تمثيلُه طالما أن التمثيل يقوم على أساس الإثنية، أو ألّا نمثّل أحداً على أساس الإثنية قطّ. إنّ هذا الخطاب الذي نسمعه منذ انطلاق الثورة السورية، بدءاً من تسمية أيام الجُمع إلى تصريحات عشرات الناشطين والإعلاميين والعسكريين والسياسيين... عن الأقلّيات والأكثريّات، وعن "مكوّنات الشعب السوري"، والأطياف والطوائف والتطمينات؛ هو خطابٌ غير وطني أولاً، لأنه لا ينطلق من فكرة الوطن كمظلَّة جامعة، بل ينطلق من انتماءاتٍ تحت-وطنية (متناحرة)، ويحاول بالكلام العاطفيّ التوفيقَ فيما بينها. وهو خطابٌ غير ثوريّ ثانياً، لأنه يحدو بنا نحو الوراء إلى ما قبل الدولة.

يبدو أنّ فهمَ القيادة السياسية للمعارضة كانت تشُوبه نظرتان؛ الأولى هي نظرة الإسلام السياسي التي تقسّم البشر إلى مسلمين وغير مسلمين، فيأخذ غيرُ المسلمين حقوقهم المدنية والثقافية وفقَ المنظور الإسلامي لهذه الحقوق، لا وفقَ ما تقتضيه مبادئُ الديمقراطية والمواطنة. والنظرة الثانية تنبع من تصوُّرٍ مفادُه أنّ "الديمقراطية التوافقية" (ديمقراطية الطوائف)، كما هو حالُ النظام اللبناني والنظام العراقي بعد الاحتلال الأميركي؛ هي السبيل للوصول إلى ديمقراطية تتمثّلُ فيها جميع "المكوّنات"، وتُرضي جميع الأطراف.

إنّ هذا التصوُّر الذي يعتقد بإمكانيّة تمثيل كل جماعة بشرية (معَ خلطٍ ضبابي بين العِرق والإثنية والقوميّة والطائفة والمذهب...) عبرَ حزبٍ أو مجلسٍ أو مؤتمرٍ يضمُّ بعضاً من أبنائها، ثم تجميع هذه الأحزاب أو المجالس أو المؤتمرات في "تجمُّع وطني" عامّ، تتمثّل فيه "المكوّنات" جميعها كما يظنُّ بعضهم؛ هو تصوُّر لا يمكن أنْ يُفضي إلى الديمقراطية والمواطنة، حتى لو استمرّتْ عملية التحويل الديمقراطي ألفَ سنة. بل هو سيفضي إلى نظام المحاصصة الطائفية الذي يتمثل فيه المواطنون بانتماءاتٍ تحت-وطنية، انتماءات النسب لا الانتساب، وينقسم فيه المجتمع بشكلٍ عمودي. ثم تدّعي كلُّ زعامة سياسية للطائفة بأنها تمثّل جميع البشر المنتمين بالولادة إلى هذا الدين أو المذهب، وتصبح الطائفة هي الجسر الذي يصعد الفرد من خلاله إلى العمل السياسي، والجسر الذي يصل من خلاله إلى الدولة، فلا تعود للفرد علاقةٌ مباشرة بالدولة كما في المواطنة، بل تمرُّ عبر الطائفة. إن دولة بهذا الشكل لن تكون دولة ديمقراطية بالمعنى الحديث للدولة وللديمقراطية، بل ستكون أشبه باتحاد مجموعة من القبائل، وهذا ما خرج اللبنانيُّون والعراقيُّون ضدّه.

أما التصوُّر الأسلم لتمثيل الأفراد في التحوُّل الديمقراطي؛ فيكون بالانطلاق من مفهوم المواطنة كرابطة مباشرة بين الفرد والدولة، لا تمرُّ عن طريق مجالس ومؤتمرات وحركاتٍ تدّعي تمثيل الأفراد على أساس الإثنية أو المذهب أو الجنس. والمواطَنة بمعنى تَسَاوي جميع المواطنين أمام القانون وفي المنظور الوطني، بغضّ النظر عن انتماءاتهم تحت-الوطنية، تقفُ على النقيض تماماً من مجالس ومؤتمراتٍ وحركاتٍ تدّعي تمثيل الأفراد على أساس الإثنية أو المذهب أو الجنس.

قد يسأل سائل: كيف نمثّل قوى الشعب إذاً؟ نمثّلها عبر التنظيمات التي حُرمنا منها خلال العقود الماضية، التنظيمات التي ينتسب الأفراد إليها بكامل إرادتهم لا بحُكم ولادتهم، التنظيمات التي تمتد في المجتمع أفقياً لا عمودياً، أي الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والنقابات وغيرها. فمِن غير المقبول من ثورة كانت تطالب بالحرية والديمقراطية أنْ تختصر الفرد ببُعدٍ واحد فقط، هو انتماؤه الديني أو الإثنيّ الذي لم يكن لهُ دورٌ في اختياره.