الحب في زمن الإنترنت

2020.07.07 | 00:06 دمشق

tarf_nt.jpg
+A
حجم الخط
-A

"أين نساؤكم؟ لماذا أنتم اللاجئون ليس لديكم نساء؟" هكذا قال لي رجُلٌ غاضب من تدفُّق اللاجئين إلى أوروبا أواخر عام 2015، وفي الحقيقة كان سؤالُه في محلّه، فغالبيةُ المهاجرين هُم من الشبّان الهاربين من خطر الاعتقال لدى النظام أو ما شابهه من جماعات مسلّحة، أو مطلوبين للتجنيد الإلزامي، أو هاجروا بحثاً عن فرصة حياة أفضل. وهكذا صارت الشابات العازبات عملةً نادرةً في المهجَر الأوروبي، وصارت بعض العائلات السورية تطلب مهوراً عاليةً لتزويج بناتها، فقد ازداد الطلبُ وقلَّ العرض. كما أدى هذا الوضع إلى ازدياد حالات الحب عبر الإنترنت، وهي ظاهرة عالمية بالطبع، لكنها تتّسم لدينا -خصوصاً بعد الهجرة الكبرى إلى الشمال- بتركُّز الشبّان في المركز الأوروبي والشابّات في الأطراف.

اختلف علماء النفس في تهديد ماهيّة الحبّ، فمنهم من اعتبره غريزةً جنسية قد تمّ تصعيدها مثل فرويد، ومنهم مَن اعتبره بحثاً دائماً عن "مثال الأنا" كما ذهبَ ثيودور رايك. أما إريك فروم فرأى أن مشكلة الحب هي رغبةُ الإنسان في أن يكون محبوباً، لذلك فهو يسعى على الدوام لكي يكون ناجحاً وقوياً وثرياً ليصبح في النهاية شخصاً جذاباً. وبما أن حضارتنا اليوم رأسمالية واستهلاكية وقائمة على شهوة الشراء وفكرة المقايضة، فإنّ غاية الإنسان من سعيه إلى أن يكون جذاباً هو الحصول على الشريك الأكثر جاذبيةً من الجنس الآخر، أي مقايضة نفسِه بأفضل سِلعة مُتاحة في السوق.

وإذا انطلقنا من رؤية فروم تلك، نلاحظ أن الحب عبر الإنترنت هو حبٌّ مناسب لرأس المال الـمُعَولَم، فهو لا يخضع لحدود جغرافية أو قومية أو اجتماعية، كما أنه يتّسم بالمرونة التي صارت تميّز سوق العمل، وبكونه خروجاً عن التنظيم الاجتماعي التقليدي المتمثّل بالأُسرة نحو علاقاتٍ اجتماعية مُعَولمة. ففي هذا النوع من الحبّ لا يوجد ارتباط مفروض بسلطة القانون أو الدين أو العُرف الاجتماعي، وبالتالي يمكن لأحد طرفي العلاقة أنْ يُعلن إفلاسه العاطفي متى يشاء، فتنتهي بذلك العلاقة التعاقدية بينهما. كما يمتاز الحبّ عبر الإنترنت بالتخلُّص من تبعاتِ الحياة اليومية، ولا سيّما الإنفاق المادي الذي لا بُدّ منه في العلاقة الواقعية. ويمتازُ كذلك بتوفير الجهد العضلي الذي تستهلكه العلاقة الفيزيولوجية المباشرة، فهو لا يعدو عن كونه تنفيساً شعورياً ورغبوياً يُخصّص له الفردُ وقتاً يسيراً من ساعات يومه، فيروّح عن نفسه ويجدّد طاقته، ليعودَ في اليوم التالي إلى خدمة ربّ العمل بكامل قوته. وإذا نظرنا إلى الموضوع من باب "السياسة الحيوية"، أي تدخُّل الدولة في القطاع الصحي، نلاحظ أنها علاقة حبّ لن تنجب أطفالاً، وبالتالي لن تكلّف الدولة ما تتكلّفه في الرعاية الصحية والتربوية للطفل، ولن تكلّف "الأبوين الافتراضيين" الوقت الذي يصرفه الآباءُ الطبيعيُّون لرعاية أطفالهم. أي إنه الحبّ الملائم لكي يتخلّى الإنسان عن الوقت والجهد المخصَّصَين للشريك والأطفال، ويخصّصهما لخدمة السوق.

لكن في مقابل ذلك، قد يكون الحبّ عبر الإنترنت فرصةً لتحقيق الحبّ المثالي، الحبّ الرومانسي المتجاوز للقيود الجغرافية والقومية والثقافية، الحبّ المتحرّر من الشهوانية والحسّـيّة المباشرة. ولكي يستمر الحب على هذا الشكل، ينبغي له التمسُّك بالفضائل العليا كالثقة والاستمرارية والوفاء. النقطة المهمة التي يثيرها الحبّ عن بُعد، بعد انتشاره الواسع في العالم، هي أنّ الحب يقوم في الأساس على التخيِيْل أكثر من كونه قائماً على أُسُس واقعية. وأن الحب في الأصل ليس غريزةً جنسية تمَّ تصعيدها خوفاً من الرقيب الاجتماعي، وذلك لأن البحث عن إشباع الغريزة يتّجه -منطقياً- إلى المحيط الأقرب، لا إلى الفضاء الأبعد.

للحبّ عن بُعد مساوئ كثيرة، فشبكة الإنترنت فضاء مناسب للخداع والاحتيال، وفي الحب البعيد لا يرى الشخصُ شريكَه كما هو على حقيقته، بل يرى نسخةّ متطورةً ومنقَّحة ومهذَّبة عنه

رغم ذلك، فللحبّ عن بُعد مساوئ كثيرة، فشبكة الإنترنت فضاء مناسب للخداع والاحتيال، وفي الحب البعيد لا يرى الشخصُ شريكَه كما هو على حقيقته، بل يرى نسخةّ متطورةً ومنقَّحة ومهذَّبة عنه، لا يمكن أن تنطبق تماماً على النسخة الواقعية. وفوق ذلك، يميلُ الـمُحبّ إلى ملء الثغرات الناقصة في شخصية محبوبه بصُوَرٍ وافتراضاتٍ إيجابية مصنوعة في خياله، فيغدو المحبوبُ في صورةٍ مثالية لا نظيرَ لها إلّا في الحكايات الرومانسية.

هناك في الغرب؛ ثمة إحصائيّاتٌ عن نسبة مَن دخلوا في علاقاتِ حبٍّ افتراضية، وإحصائيات عن نسبة الأزواج الذين تعرفوا على شركائهم عبر الإنترنت. لكنّ إحصائياتٍ كهذه غير متوفرة في بلداننا، رغمَ أنّ الظاهرة منتشرة في سوريا كثيراً، ولأسباب عدّة أوّلُها اللجوء والهجرة وتفكُّك المجتمعات التقليدية، والثاني هو القمع الاجتماعي للعلاقة بين الجنسين مما يجعل الإنترنت مُتنَفَّساً سِرياً للجنس والعاطفة، والثالث هو صعوبة أو استحالة التواصل المباشر بين طرفي العلاقة عندما يقيمان في بلدين متباعدين، والرابع هو ضعف القدرة المادية لدى غالبية من الشبّان، والخامس هو أن وسائل التواصل الاجتماعي قد صارت "وطناً" للسوريين، وبديلاً عن الوطن المفقود.

وبالترافق مع ظاهرة الحب عن بُعد، برزت ظاهرة "الجنس الافتراضي" (Cybersex)، وهو ليس جنساً في الحقيقة، بل تخيُّل ممارسة الجنس عن طريق الكتابة أو الاتصال أو الفيديو، وبالتالي فهو يفتقر إلى حواسّ اللمس والذوق والشمّ، ويعتمد على الصوت والصورة والتَّخْيِيْل بشكل كبير. نحن لا نتحدث هنا عن شبكات النصب والاحتيال، بل عن قرار شخصَين راشِدَين اللُّجوء إلى هذا النوع من الإشباع الجنسي. يُقال إنّ من فوائد "الجنس الافتراضي" أنه يسمح للشريكَين اللذين باعدت الظروفُ بينهما جغرافياً؛ أنْ يُحافظا على التواصل الحميمي وتعزيز البُعد الجنسي للعلاقة. كما أنه أقلُّ تكلفةً وجهداً من العلاقة المباشرة، وأكثرُ أماناً من الناحية الصحية، ويجنّب الطرفين الصدامَ مع سُلطة القمع الاجتماعي. بينما تبرز مساوئه مثل انتهاك الخصوصية، إذ يمكن لأحد الطرفين الاحتفاظ بصُور أو تسجيل للشريك. ومن مساوئه ازدياد العزلة الفردية، وخطورة التعوُّد عليه إلى درجة الإدمان، فيصبح هو "الحالة الطبيعية" التي قد تُغني الإنسان عن التواصل المباشر وإقامة علاقة حقيقيّة وسليمة.

في كل حال، صار لدينا اليوم: "علم الاجتماع الآلي"، وهو فرع من علم الاجتماع مختصّ في العلاقات الاجتماعية عبر الإنترنت، وعلى رأسها الحبّ والجنس. فهذه الظواهر قد باتتْ منتشرةً في كل بلد وفي كل بيت، وليس من المفيد إنكارُها أو التعامل معها كأنها غير موجودة.