هل الجنّة في الماضي أم في المستقبل؟

2020.07.14 | 00:01 دمشق

almady_walmstqbl.jpeg
+A
حجم الخط
-A

كيف يدرك الإنسانُ مفهومَ الزمن؟ ما هو دور العائلة والمدرسة والمجتمع ثم التثقيف الذاتي والتوجُّه السياسي في ذلك؟ وما الآثار الناجمة عن ذلك؟ هل الزمنُ هو ما ندركه عند النظر إلى عقارب الساعة أو أوراق الروزنامة؟ أم هو تصوُّرنا لعُمر الكون بأكمله وموقعنا بالنسبة إليه؟!

أقدمُ زمن عرفه الإنسان هو "الزمن الأسطوري"، وصلَ إلينا عن طريق آثار الحضارات القديمة في بلاد الرافدين ومصر. كانت تلك الحضارات زراعية بامتياز، وكان مفهومُ السَّنَة يتحدّد بدورة الأرض حول الشمس، وتعاقُب الفصول الأربعة المرتبط جوهرياً بالحياة الزراعية. وبما أنه زمنٌ مرتبط بدورة الأرض حول الشمس، ومتكرّرٌ بتعاقُب الفصول، فكان يبدو زمناً دائرياً لا بداية له ولا نهاية، يسير من فصل الموت (الخريف) إلى فصل البعث والولادة (الربيع) باستمرارٍ دائم. وبسبب تأثيرات التصوُّر الدائري للزمن؛ شاعَ لدى كثيرين من المفكّرين والسياسيّين أن الشعوب والحضارات لا تموتُ ميتةً نهائية، بل تموت حقبةً من الزمن ثم تنبعثُ من جديد مثل الطبيعة في دورتها الفصليّة.

وبناءً على هذا التصوُّر أُطلقتْ تسمية "النهضة العربية" على فترة أواخر القرن التاسع عشر، إذ اعتُبرتْ ولادةً جديدة للأمة. ثم ظهرتْ مدارس شِعرية تحمل تسمياتٍ مثل "مدرسة الإحياء" و"مدرسة البعث"، ويُقصد بها إحياءُ الشعر العربي وإعادته إلى ربيعه الغابر. كما نتجَ عن بلاغة الزمن الأسطوريّ هذا تسميةُ "حزب البعث" بمعنى إحياء الأمة بعد موتها. وقد شاع في الخطاب العربي طوال القرن العشرين تعابيرُ تُشبِّه الأمة أو الحضارة بطائر الفينيق الذي يموت ثم ينبعث من الرماد، وأُخرى تجعلُ من دم الشهداء منارةً تضيءُ درب النصر، وتتغنّى بشقائق النعمان التي تنمو على قبور الشهداء وتجدّد الحياةَ من قلب الموت. وهكذا... وصولاً إلى تسمية "الربيع العربي" الـمُستمَدَّة أيضاً من بلاغة الزمن الأسطوري.

نشأ التصوُّر الديني للزمن؛ عندما صار الزمنُ خطّـاً مستقيماً يمتدُّ من الفردوس المفقود إلى يوم الآخرة، ففي الزمن الديني يكونُ الفردوس المفقود في الماضي السحيق، وقبلَ بدء حياة الشَّقاء على الأرض. والفردوس المفقود هو "العالم المثالي" حين كان البشر يعيشون في سلامٍ ومحبّة وسعادة، بريئينَ تماماً من الشُرور والمفاسد التي ظهرتْ فيما بعد. وقد اتّخذ الفردوسُ المفقود تسمياتٍ مختلفة عند الشعوب، فهو عند اليونان "أركاديا"، وعند الرومان "براديسوس"، وفي الأديان السماوية "جنّة عدن"، لكنّ الـمُشتَـرَك العام هو وصفُ ذاك الزمن بالعصر الذهبي. وبناءً على هذا التصوُّر للزمن؛ يصبح كل ما هو قديم أفضلَ بالضرورة من كل ما هو جديد أو متأخّر زمنياً، إذ يتمّ تصوُّر الزمن القديم على أنه عصرٌ مثاليّ، عاش فيه بشرٌ استثنائيُّون مُـنَـزَّهون عن الدوافع والمطامع والخطايا. وبناءً على هذا التصوُّر المثاليّ -غير الصحيح- للزمن الماضي، يريدُ بعضُ أصحاب الاتّجاهات الدينية استعادةَ "العصر الذهبي" الغابر، سواء قصدوا به عصر الصحابة أو الخلافة العربية أو الخلافة العثمانية... إلخ.

التصوُّر الحداثي للزمن يشبه التصوُّر الديني من حيث اعتبار الزمن خطاً مستقيماً يمتدّ من الماضي إلى الحاضر، لكنه يناقضه من حيث إنّ الزمن الحداثي يرى "الفردوسَ المفقود" في المستقبل لا في الماضي

الزمن الثالث هو الزمن الحداثي الذي بدأ في القرن الثامن عشر، وذلك عندما نقدَ فلاسفةُ التنويرِ التصوُّرَ الفلسفيّ القديم الذي كان يرى أنّ العالم أزليٌّ أبديُّ لا بداية له ولا نهاية، فجاء الفيلسوف كانط وقال: "لو كان الكونُ بلا بداية، فسوف تكون هناك فترةٌ زمنية لا نهائية قبل أيّ حدث"، أي لو كان الكونُ ممتداً في الماضي إلى ما لا نهاية؛ لما كنّا استطعنا أن نصل إلى عام 2020 مثلاً. إنّ التصوُّر الحداثي للزمن يشبه التصوُّر الديني من حيث اعتبار الزمن خطاً مستقيماً يمتدّ من الماضي إلى الحاضر، لكنه يناقضه من حيث إنّ الزمن الحداثي يرى "الفردوسَ المفقود" في المستقبل لا في الماضي، وأنّ الجنّة هي ما سوف يبنيه البشرُ على الأرض عن طريق التقدُّم الصناعي والتكنولوجي، المترافق مع تطوُّر الأنظمة السياسيّة والاجتماعية والتعليمية والصحيّة.

لا يمكن طرح فكرة الحداثة بعيداً عن فكرة الزمن، فالحداثة في الأصل مفهومٌ زمني، هي نظرة تتطلُّع إلى كل ما هو حديث وتقطعُ مع كلّ ما هو قديم، وتميلُ بوضوحٍ إلى تفضيل الحديث على القديم. لكنّ الحداثة التي تفاءلَ بها البشر؛ أنجبتْ في القرن العشرين الأنظمة الشمولية المرعبة في ألمانيا والاتحاد السوفييتي، وأنجبت الأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية، ومعسكرات التعذيب والإبادة... ما جعل البشر يشكّكون في هذه الحداثة ويرفضونها أخلاقياً، فأدّى ذلك إلى ظهور تيارات ما بعد الحداثة.

ونضيف أنّ التصوُّر الحداثي الذي يرى الجديدَ أفضلَ من القديم على الدوام، وأنّ العالم سائرٌ في تطوُّر دائم؛ قد أُضفيتْ عليه صبغةٌ عِرقية في القرنين التاسع عشر والعشرين، فصار لدينا شعوبٌ تُوصَف بأنها متقدّمة في مقابل شعوبٍ تُوصَف بأنها متخلفة أو غير قابلة للتطوّر، بسبب طبيعتها "العِرقية" أو الثقافية. ومن نتائج التصوُّر الحداثي للزمن أيضاً؛ نلاحظُ ما غرقتْ فيه النخبُ العربية من نقاشاتٍ وجدالاتٍ تقوم على ثنائيات ضدّية حادة مثل: الحداثة والتراث، التقدُّم والتأخُّر، التطوُّر والتخلُّف، التجديد والتأصيل، العَلْمانية والإسلاميّة... إلخ. وهي ثنائيات غير صحيحة في الأساس، وبالتالي فهي غيرُ منتجة ولا فائدة تُرجى من ضَرْبها بعضاً ببعض.

وفي الحقيقة؛ لقد عزّز التقدّمُ الصناعي والتكنولوجي وثورةُ الاتصالات والرقميّات من سطوة المفهوم الحداثي للزمن، أي اعتبار الجديد أفضلَ من القديم بالضرورة، على قياس أنّ الهواتف التي نحملُها اليوم أفضلُ من تلك التي حملناها قبل عشرة أعوام. لكنّ هذا التطوُّر السريع في المنتجات الإلكترونية والرقميّة لا يمكن تعميمُه على الظواهر البشرية جميعها، فالأنظمة السياسية التي تحكم البلدان العربية اليومَ ليستْ أحسنَ من الأنظمة التي حكمتْ في الخمسينيّات. وكذلك فإنّ المنتجات الفكرية والأدبية التي نقدّمها اليوم؛ ليست أفضل بالضرورة من الفلسفات والآداب القديمة، فقط لكوننا نتمتّعُ بسُلطة الزمن الحديث.

وفي الوقت الذي تتقدّم فيه التكنولوجيا بشكلٍ مذهل، ثمة أطفالٌ يموتون من الجوع، وثمة مجرمون يرتكبون مجازر مفتوحة منذ سنوات. ومع التغيُّرات المناخية الخطيرة، وانتشار فيروس كورونا، هل يمكن الاعتقاد أنّ الفردوس المفقود (أو جنّة البشر) يقعُ في المستقبل كما بشّرتْ الحداثة؟!