النساء بوصفهنّ طبقة مضطَهَدة

2020.07.21 | 00:01 دمشق

image1170x530cropped.jpg
+A
حجم الخط
-A

تحتلُّ المرأة في مجتمعاتنا مرتبة اجتماعية أدنى من مرتبة الرجل، وتشكّل النساء شريحة اجتماعية مُقيّدة ومحكُومة ومُضطَهَدة بسُلطة الدولة والمؤسّسات والأُسرة والعقائد والعادات والتقاليد. وفي تقرير أعدّته مؤسسة طومسون رويترز  (عام 2018) حول أكثر البلدان خطورة على النساء في العالم؛ نجد أن ثلاثة بلدان عربية من ضمن الخمسة الأوائل (سوريا والصومال والسعودية)، وسبعة بلدان ذات غالبية مُسلمة من ضمن العشرة الأوائل (أفغانستان وسوريا والصومال والسعودية وباكستان واليمن ونيجيريا).

لكن هل يمكن اعتبار التمييز ضد النساء تمييزاً طبقياً؟ يقوم على مقاربة العلاقة بين الجنسين مقاربة سياسية؟! قد تختلف الإجابة حسب تعريف كل شخص للسياسة. لكن لا يجب أن نفهم السياسة بمعناها الضيّق الخاصّ بالأحزاب والهيئات والزعماء، فالسياسة تشمل جميع العلاقات المبنيّة على أساس السلطة، أي المنظومة التي تكون فيها جماعة محكومة من قِبل جماعة أخرى، بحيث تكون لدينا جماعة مُسيطِرة وجماعة خاضعة.

ومن أهمّ المفكّرات النِّسْويّات اللواتي درسنَ العلاقة بين الجنسين من منظور سياسي، تقف الكاتبة الأميركية "كيت ميليت" في كتابها "السياسة الجنسيّة" الـمُصنَّف ضمن كلاسيكيّات الفكر النِّسْوي. ترى ميليت أنّ المجتمع الذكوريّ الأبويّ يقوم على بُنيان سُلْطوي، تتوزّع فيه الأدوار بين الرجل والمرأة بشكل ظالم، حيث تخضع الأنثى لسُلطة الذكر، وتُعامَل بوصفها أدنى مرتبة منه. وتُستخدَم القوّة المباشرة وغير المباشرة في هذه المنظومة، من أجل الحَجْر على النساء في الحياة العائلية المنزلية.

ترى ميليت أن اضطهاد النساء ليس اقتصادياً فحسب، بل هو شامل لنواحي الحياة كلها، وخاصة النفسيّة منها، إذ تُلقَّنُ الفتاةُ منذ طفولتها بأنها عاجزة عن القيام بأي نشاط إنساني مهمّ، وبالتالي فعليها أنْ تتحوّل إلى موضوع جنسي، أي أنْ تكون جميلةً ومثيرة وفقاً لمعايير الجمال التي وضعها المجتمعُ الذكوري نفسه. فإنْ حقّقتْ معايير الجمال هذه؛ فسوف تحصل على زوج، ثم تُكرّس حياتها للحَمْل ورعاية الأطفال. "هذه هي حياة الأنثى!" تعقّب ميليت: "وهكذا تمَّ اختزالُ نصف الجنس البشري إلى حدود السلوك الحيواني".

ومنذ الطفولة -حسب ميليت- يبدأ المجتمع بصناعة الفروق الجندرية بين الذكر والأنثى، عن طريق تصنيف الملابس والألعاب والتصرُّفات إلى "صبيانيّة" و"بناتيّة"، بالإضافة إلى دور التعليم والدعاية والإعلام في ذلك. وهكذا تُنتِج الظروفُ الاجتماعية شخصيةَ الذكر: (العدوانيّ- الذكي- القوي- الفاعل) وشخصية الأنثى: (السلبيّة- الجاهلة- الـمُطيعة- الـمُنفعِلة). وترى ميليت أنّ ذلك يندرج ضمنَ مخطّطٍ قديم وعالميّ لضمان استمرار سيطرة مجموعة بشرية على أُخرى، الأولى مُسيطِرة بسبب "فضيلة" الولادة كذكور، والثانية خاضعة بسبب "رذيلة" الولادة كإناث!

تربط ميليت بين التمييز الجنسي (رجل وامرأة) والتمييز العِرقي (أبيض وأسود)، فقد أثبتت الدراسات العلمية الحديثة أنّ العلاقة بين الأعراق علاقة سياسيّة بحتة، تتضمّن شروطاً قمعية تحرِمُ الجماعة الخاضعة من حقّها في التمثيل السياسي وحُكْم نفسِها بنفسها وتقرير مصيرها، بينما تُصانُ حقوقُ الامتياز للعِرق الأقوى بحُكْم الولادة. ولذلك فهي ترى أنّ النساء قد وُضعنَ عبر التاريخ في مرتبة "الأقلّيات"، بالرغم من حصولهنّ على بعض الحقوق المدنية وحقّ الاقتراع، ولكنّ ذلك لا يعني وجود أيّ تمثيلٍ حقيقي للنساء.

بالنسبة إلى الولايات المتحدة، تقول ميليت إنّ حقّ الاقتراع لا يعني اعترافاً حقيقياً بالمواطنة، فالوقائع التاريخية تثبت أنّ النساء والسُود هُم في أدنى المراتب الاجتماعية، ولا طريقَ أمامهم للصعود إلّا بإقامة علاقات مع الطبقة العليا. وترى أن التمييز بين الجماعات البشرية على أساس الولادة، مثل تمييز البيض عن السود، أو تمييز الرجال عن النساء؛ يتراجع ويسير في طريقه إلى الانقراض، فلا أفضليّة لإنسانٍ على آخر بالعِرق أو الجنس. ولذلك فهي تدعو إلى الثورة المدنيّة والنِّسوية والطّلابية الشاملة، تقول: "نحن النساء والسُود والطلاب نشكّل 70% من الشعب الأميركي، وهذا يكفي لإحداث تغيير في شكل المجتمع وسيرورته، ويكفي للقيام بثورة اجتماعية جذرية. سوف تكون أوّل ثورة لا تُسفَك فيها الدماء، ولا تقود إلى ثورة مضادّة. لأنها تسعى إلى التغيير الجذري لا إلى تغيير الرؤوس فقط".

وفي مجال الأعمال الأدبية؛ تعتقد ميليت أن "السياسة الجنسية" التي يتبنّاها المجتمع الذكوري الأبويّ، الـمُنحاز لجنس على حساب الآخر، قد أنجبتْ كتّاباً وأعمالاً أدبية مُهينة للنساء، وضارّة بسعيهنّ إلى الحصول على ظروف حياتية أفضل. ولكي تُثبت تأثير الخطوط العريضة للسياسة الجنسية في الأدب، تقوم بتحليل أعمال أدبية لكتّاب أمريكيين كبار مثل د.ه. لورنس- هنري ميلر- نورمان ميلر؛ وتستنتج أنّ الخيط المشترك بينهم هو محاولتهم "تأبيد" السيطرة الذكورية على الإناث عبرَ اللغة المستخدمة في وصف علاقة الحبّ وممارسة الجنس، فهي لغة تُعطي للرجل صفات القوة والسيطرة، بينما تقدّم النساء كخاضعات ومستعبدَات.

وعندنا في الثقافة العربية كثير من الأعمال الأدبية التي تقدّم المرأة كخاضعة للرجل، وكموضوع جنسيّ مثير. وكثيراً ما يرتدي الشاعر العربي قناعَ الفارس الفحل المغوار، كثير العلاقات والمغامرات مع النساء، ذاك الذي يعذّبهنّ بوسامته وفروسيّته فيخضعن لهُ مثلما تخضعُ الفريسة للصيّاد. وكثيراً ما يتمثّل الشاعرُ العاشق بصورة الأسد أو النمر ويأخذ صفاته، بينما يُعطي للمرأة صورة المها أو الظبية وصفاتها، لتغدو حالة الافتراس الغريزية عند الحيوان قناعاً لمطاردة العاشق لمحبوبته، وتمثيلاً للعلاقة الجنسية. ناهيك عن تقديم المرأة في مسلسلات البيئة الشامية كخادمة ومملوكة للرجل، وتأثير هذه الصورة على الأطفال والمراهقين والكبار.

وفي النهاية؛ لا يمكن للرجُل أنْ يتحرّر ما لم تتحرّر المرأة، والعكس صحيح، فللمجتمع جناحان لا يطير إلا بهما معاً. وفي الحقيقة تشكّل النساء في كثير من دول العالم طبقة اجتماعية مضطَهَدة، طبقة لا تملك جسدَها حقَّ الملكيّة، ولا تملك حريّة التصرّف وتقرير المصير. وكذلك فهي طبقة تتحدَّد أدورُاها الاجتماعية والسياسية والثقافية منذ الولادة، وعلى أساس الجنس، فيصبح من الصعب على أبنائها اختراقُ هذا التحديد الاجتماعي السُلطويّ نحو آفاقٍ أوسع، تقفُ فيها المرأةُ على قدر المساواة الكاملة مع الرجل.

كلمات مفتاحية