من اخترع العنصرية؟

2020.06.30 | 00:03 دمشق

645x344-1591354963499.jpg
+A
حجم الخط
-A

عرف تاريخ البشرية أشكالاً مختلفة من العنصرية، فلطالما كان البشر يتّخذون مواقف من الشعوب المجاورة لهم، تتدرّج من الشكّ والتوجُّس إلى الخوف والشيْطَنة. كما كانوا يطلقون على جماعات بشرية كاملة صفاتٍ محددة؛ كالضعف والجُبن أو الهمجيّة والتوحّش أو الكذب والغدر. وفي بعض الحروب التوسُّعية التي عرفتْها الامبراطوريات القديمة، كان الغزاةُ يبرّرون حربهم بحجّة أنّ الشعوب التي احتلّوها هي شعوب متخلّفة وجاهلة أو ضالّة وكافرة، وأنهم جاؤوا لتخليصها مما هي عليه. وفي المقابل، كان المهزومون يصفون الشعبَ المتغلّب بالهمجيّة والوحشيّة وغيرها من صفات سلبية.

أما على الصعيد الداخلي، فقد كان النظام العبودي منتشراً في مختلف أنحاء العالم، ومترافقاً بطبيعته مع نظامٍ طبقيّ حادّ التقسيمات وصعب الاختراق. وهكذا صارت كلُّ طبقة تكتسبُ صفاتٍ معينة يحدّدُها دورُها الاقتصادي وموقعها من الهرم الاجتماعي والسلطوي، فيُوصَف العبيدُ بأنهم أغبياء وكسالى وغدّارون بطبيعتهم، لا بسبب الظروف التي يعيشون فيها. بينما يُوصَف النبلاءُ (أو الأشراف) بأنهم أصحابُ دمٍ نقيّ أزرق، وتُوصَف طبقةُ الملوك بأنها تنحدرُ من نسل الآلهة مباشرة، حتى أن فيلسوفاً بحجم أرسطو كان يرى أن للعبيد طبيعةً خاصة مختلفة كلياً عن طبيعة السادة.

وقبل العصر الذهبي للعنصرية (من بداية القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن العشرين)، كان للغة دورٌ كبير في تحديد هوية الشعب (أو الأمّة) وفي رسم حدوده. فالعرب هُم مَن يتكلّمون العربية، والفُرس مَن يتكلّمون الفارسية، واليونانُ مَن يتكلّمون اليونانية، إلخ. وهكذا؛ أطلق اليونانُ صفة "بربريّ" على كل من لا يتحدث اليونانية، ثم جاء الرومانُ الذين كانوا "برابرة" في نظر اليونان، وأطلقوا صفة "بربري" على كافة الشعوب عدا اليونان والرومان، ووصفوها بأنها شعوبٌ تفتقر إلى التراث والآداب اليونانية الرومانية. وفي القرون الوسطى -عصر سيادة الكنيسة-؛ أُطلقتْ كلمة "بربريّ" على غير المسيحيين، أي اليهود والمسلمين، وقد تعرّضت هاتان العقيدتان إلى إبادةٍ وتطهيرٍ بعد سقوط غرناطة 1492 م.  

أما في العصر الذهبي للعنصرية (1700-1950)، فقد أصبحت العنصرية تتمتّع بأرضيّةٍ تفسيريّة واحدة تقوم على تأويل فاسدٍ لنتائج البيولوجيا. وقد ظهر ذلك عندما أدخل علماءُ التاريخ الطبيعي مفهوماً مُلتبساً وخطيراً، ألا وهو مفهوم "العِرق"، واستخدموه كأساسٍ لتصنيف البشر إلى فئاتٍ ومراتب. بدءاً من العالم السويدي كارلوس لينيوس (1707-1778) الذي قسّم البشر إلى أربع مجموعات: الأوروبيّة والأميركية والآسيوية والإفريقية، واعتبرَ أنها تتفاوتُ فيما بينها من حيث الذكاء والقدرات. ثمّ قدّمَ العالم الهولندي بطرس كامبر (1722-1789) تصنيفاً للأعراق البشرية يعتمد على دراسة حجم الجُمجمة، وخلُصَ إلى وجود تقارُب بين الأفارقة والقِرَدة. ثم جاء العالم الفرنسي كونت دي بوفون (1707-1788) وقال في كتابه "التاريخ الطبيعي" حرفياً: "إنّ الإنسان الأسود بالنسبة للإنسان الأبيض؛ أشبَهُ بالحمار بالنسبة للحصان. وإذا كان الإنسانُ الأبيض إنساناً، فإنّ الإنسان الأسود هو حيوان كامل مثل القرد". ثم جاء مواطنُهُ كونت دي غوبينو (1816-1882)، ودرسَ في كتابه "دراسة في تفاوت الأعراق" صعودَ الحضارات وهبوطها على أساس الدم، فهو يُحيل قيام حضاراتٍ كالهندية والفارسية إلى أنّ مَن قاموا بها هُم من عرقٍ قريب من العِرق الآريّ، كما فسَّر انحلال الحضارات وزوالها إلى اختلاطهم -عن طريق التزاوج- مع الشعوب الأدنى مرتبة. ثم بلغت العنصرية ذروتَها بعد استغلال النتائج الـمُذهلة التي حقّقتْـها نظريةُ التطوُّر على يد تشارلز داروين (1809-1882)، إذ تمَّ توظيفُ نتائج علم الحياة (البيولوجيا) في دعم أيديولوجيات شمولية معادية للحياة.

ما هو أصل عنصرية القرن العشرين؟

يرى ميشيل فوكو في كتابه "يجب الدفاع عن المجتمع" أنّ أصل العنصرية يكمن في سُلطة الدولة الحديثة، وأصل السُلطة يكمن في "حرب الأعرق"، أي صراع عِرقين أو أكثر على السُلطة في إقليم الدولة. ويرى أنه مع ظهور مفهوم "العِرق" في القرن التاسع عشر؛ حدثَ تغيُّر في مفهوم الدولة ووظيفتها، فلم تعد الدولة وسيلةَ عِرقٍ ضدَّ آخر، بل صارت حاميةً للعِرق وتفوُّقه وطهارته، ومن هنا وُلد الخطابُ النازيّ ذو النتائج الكارثية. بينما يرى بِندكْت أندرسُن في كتابه "الجماعات المتخيَّلة"؛ أنّ أصل الأحلام العنصرية هو في أيديولوجيات الطبقة وليس في أيديولوجيات القومية، أي أنّ أصلها في النظام الطبقي القديم وما يتضمّنه من مزاعم مثل أنّ الملوك ينحدرون من نسل الآلهة، وأن الأرستقراطيين ذوو دمٍ أزرق، وأنّ العبيد من طبيعة أدنى من طبيعة البشر، وغير ذلك. ويرى أندرسُن أن العنصرية ليست من أجل تبرير الحروب الخارجية بل لتبرير القمع والسيطرة الداخليين، وأنّ العنصرية الاستعمارية ظهرتْ مع نشوء الإمبراطوريات الحديثة التي نقلت النظام الطبقي الداخليّ إلى مستعمراتها الجديدة. فإذا ما كان اللورداتُ الإنكليز متفوّقين بصورةٍ طبيعية على بقية الإنكليز؛ فإنّ الإنكليزَ العاديّين هم متفوّقون بطبيعتهم على الشعوب الخاضعة للاستعمار البريطاني. أي أن العنصرية كما تتبدى اليوم في حادثة مقتل جورج فلويد هي ابنة النظام الطبقي وتقسيماته الحادة، وما يتضمّنه من تحديد صفاتٍ ثابتة لكل طبقة من الطبقات.

 وهنا ننبّه القارئ إلى أن العلماء المذكورين أعلاه -باستثناء داروين- هم علماءُ زائفون، والعلم الذي قدموه هو علمٌ زائف (Pseudoscience). فقد أثبت العلم الحديث أنّ النظرية العرقية بل الأعراق كلّها هي مجرّد خرافات وأوهام، فلا يوجد اختلاف بين الأعراق أبداً، إلا عند السطحيّين الذين ينظرون إلى الفوارق السطحية الناجمة عن الجغرافيا والمناخ اللذين عاش فيهما شعبٌ من الشعوب على مدى آلاف السنوات. كما أنّ علم الأنساب الجيني ينسفُ معظمَ ما نعرفه عن أصول الشعوب وهجراتها.

وفي واقع الأمر، يزداد انتشار العنصرية وإطلاق الأحكام العنصرية على أفرادٍ وجماعاتٍ وشعوب، وتفسير التقدّم والتخلُّف بأسباب عنصرية؛ في الدول المحكومة من قبل نظام استبداديّ شُمولي يمارس إرهاب الدولة بشكل يومي، ويدعّم خطابه السلطويّ بنظام تعليميّ متخلّف وإعلام مُضلِّل، وبرهطٍ من المثقفين الطائفيين والعنصريين. وبالطبع فإنني أقصد نظام الأسد وجماعته ومواليه ومثقفيه ونتاجهم الفكريّ والفنّي، فمن لم يتوقفْ عن بثّ سمومه العنصرية تجاه اليهود والأتراك ودول الخليج العربي خلال عقود، يسهل عليه تحويل عنصريّته إلى الداخل، إلى سوريين من أبناء دين معيّن ومذهب ديني محدّد. وهكذا تجدهم يتحدثون عن مذهب ديني يُوصَف بالثبات والجمود والتخلُّف والتشدُّد وصولاً إلى الإرهاب، ومذاهب دينية أخرى تُوصَف بالتحوُّل والحيوية والتحضُّر والتحرُّر وصولاً إلى العلمانية. ثم يطرحون توصيفات مثل "البيئات الحاضنة للإرهاب" لتبرير الإبادة الجماعية، و"المجتمع المتجانس" لتبرير جرائم التطهير الإثني والتهجير، وكل ذلك نابع من تصوُّرات عنصرية في غاية التوحش والانحطاط.

كلمات مفتاحية