icon
التغطية الحية

في مناطق سيطرة النظام.. مجتمع مدني هش ومنظمات دولية تغازل الحكومة

2023.04.07 | 04:15 دمشق

منظمات المجتمع المدني في مناطق سيطرة النطام
متطوعون يوزعون الوجبات في شهر رمضان بدمشق ـ رويترز
إسطنبول ـ بتول حديد
+A
حجم الخط
-A

لطالما مثلت المنظمات الأهلية "غير الحكومية" وقوى المجتمع المدني العصا التي تتكئ عليها أضعف شرائح هذه البلاد الفقيرة ومناطق النزاع والحروب وأكثرها تهميشاً المتمثلة بالنساء والأطفال، عبر تقديمها الدعم الغذائي والتعليمي والتأهيلي وإن كان بالحد الأدنى. لكن المشهد في سوريا يختلف عن هذه الصورة، ففي إحدى ضواحي العاصمة دمشق جلس طفل يتيم مع شقيقه تحت شجرة تنصّف رصيف شارع الضاحية، يقع على يساره مبنى للهلال الأحمر السوري وعلى يمينه مبنى النادي التفاعلي المهتم بدعم الأسر وتمكين النساء، بقي الطفلان تحت الشجرة لستة أشهر دون أن يتحرك أحد ليقدم لهما أي شيء.

يُفهم أن مشهد الأطفال النائمين على جوانب الطرقات والحدائق أصبح أمراً معتاداً لمن يقيم في دمشق وباقي مناطق النظام، مشهد ظهر وتزايد تدريجياً خلال 12 عاماً كنتيجة للحرب من جهة وللملاحقات الأمنية وعمليات التهجير القسري من جهة ثانية. لكن غير المفهوم هو وجود الطفلين أمام أبواب المنظمات الوطنية غير الحكومية وفرق الدعم المجتمعي التي تتلقى تمويلاً دولياً شهرياً لدعم هؤلاء الأطفال أساساً. فما الذي يمنع فرق المجتمع المدني والمنظمات الأهلية غير الحكومية والدولية والأجنبية الموجودة في سوريا من أداء مهامها تجاه الأطفال على الأقل؟

 المنظمات غير الحكومية السورية بين سلطة الأسد وثورة الشعب

يعود الوجود القانوني للجمعيات "الخيرية" غير الحكومية في سوريا إلى سنة 1958، الذي قونن ورخص النشاطات المجتمعية الموجودة مسبقاً ضمن إطار وهيكلية المنظمات بشكل سلسل من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية حتى حدوث انقلاب حزب البعث وإعلان حالة الطوارئ في 8 آذار 1963، إذ أصبح تسجيل المنظمات الجديدة شبه مستحيل مع تدخل الأجهزة الأمنية المباشر في مراجعة طلبات الترخيص المقدمة للوزارة، والتي كانت تحتاج سنوات حتى يُقر قبول الطلب من رفضه . خلال حقبة بروز البعث كانت طلبات ترخيص الجمعيات الأهلية غير الحكومية تتجه نحو الرفض حتى سنة 1970 ووصول حافظ الأسد للحكم ليتم معاملة الجمعيات الأهلية كالأحزاب من حيث محاولة تدجينها وتعطيل دورها في المجتمع وبالتالي حظر أي وجود لها. 

استمر حال إفراغ منظمات المجتمع المدني من دورها المفترض وخنق وجودها إلى حين وراثة الابن للبلاد وانطلاق مشاريع أسماء الأسد التنموية والمجتمعية ووضعها تحت مظلة المنظمات غير الحكومية، حيث تم ابتلاع قطاع العمل المجتمعي (غير الملحوظ في سوريا) وكامل التمويل المقدم لهُ من قبل الجهات المانحة من قبل جمعيات ومنظمات أسماء الأسد لامتلاكها "متطلبات التنوع في المشاريع التنموية والدعم اللوجستي المكاني". يمكن القول إنه بعد 2001 كانت كل الجمعيات العاملة في سوريا هي تلك المقربة من رئيس النظام شخصياُ أو التابعة بشكل مباشر إلى الأمم المتحدة – يونيسيف وصحة دولية – وانحصر دورها بالتعامل مع الحكومة، وترافق ذلك مع ظهور عدد قليل جداً من المنظمات الأجنبية العاملة لأول مرة في سوريا كشبكة الآغا خان للتنمية التي باشرت عملها بناء على اتفاقية موقعة مع الحكومة السورية في تشرين الثاني / نوفمبر من 2001 .

مشهد المنظمات غير الحكومية في مناطق النظام بعد 2011

مطلع سنة 2015، حاول بعض الشباب من أصحاب المبادرات الفردية في مدينة حماة تشكيل فريق رسمي مرخص لدى وزارة الشؤون الاجتماعية ليجذبوا تمويلا بسيطا يدعم العائلات والأطفال في منطقتهم، البعيدة عن دعم الفرق والمنظمات الفاعلة على الأرض، فاستكملوا أوراقهم وقدموا طلب ترخيص إلى الوزارة ليأتي الرفض بعد عدة أسابيع بحجة وجود أكثر من 15 فريقا مرخصا للعمل المجتمعي يغطي منطقتهم، وبعد عناء ومحاولات ووساطة تمكنوا من الاطلاع على أسماء الفرق العاملة في منطقتهم ليتعرفوا على ثلاثة منها بينما الـ 12 الإضافية لم يسمعوا بها أبداً.

اقرأ أيضا: فاينينشال تايمز: أسماء الأسد تقود مجلسا سرّيا يتحكم باقتصاد سوريا

خلال العقد الأخير من الزمن لم تعلن وزارة الشؤون الاجتماعية عن أسماء المنظمات والجمعيات الخيرية غير الحكومية المسجلة والمرخصة لديها نهائياً، حتى إن الحصول على عدد هذه الفرق المرخصة أو الاطلاع على أسمائها يكاد يكون مستحيلا، لوجود عدد كبير من الفرق المشبوهة وغير الفاعلة والممولة دولياً؛ فمع انطلاق الثورة السورية توجهت الحاضنة المقربة من السلطة إلى ترخيص الجمعيات المدنية الأهلية للحصول على التمويل الأممي بهدف القيام بأحد أمرين: الأول هو منح النافذين وأصحاب الكلمة من حاضنة النظام بابا للمنفعة المالية وبالتالي الحفاظ على ولائهم، والسبب الثاني هو تأمين تمويل للقوات الرديفة (الميليشيات غير النظامية) التي تقاتل مع قوات الأسد؛ فعلى سبيل المثال مؤسسة "الشهيد السوري" التي تم تأسيسها وترخيصها سنة 2013،  لم تقدم هذه المؤسسة التمويل المالي المباشر للمقاتلين أو لعائلات قتلى هذه القوات، بل زودت عوائلهم بحصص غذائية دورية وإعانات فصلية مع رواتب لنسائهم وأطفالهم، ولها عدة فروع في طرطوس واللاذقية ودمشق.

مُجتمع مدني سوري مُقيد

خلال السنوات الأخيرة تكشفت هيكلية العمل المجتمعي في سوريا بشكل كبير، فالمؤسسات والمنظمات الدولية الفاعلة بالمجال الإنساني لا تعمل مباشرة على الأرض بل تتعامل مع جمعيات تعود بشكل مباشر – و غير مباشر – لرأس النظام السوري وزوجته، بعدها يتوزع العمل بشكل هرمي . يبدأ رأس الهرم من إعلان وجود تمويل دولي مقدم لسوريا لخدمة شريحة مجتمعية معينة، ويشترط الممول على المتقدمين أن يكونوا مرخصين للعمل لدى وزارة الشؤون الاجتماعية، وهو السبب الذي جعل معظم فرق المجتمع المدني السوري تهتم بالتنمية ورعاية الأسرة والمرأة في آن واحد وعدم التخصص بشريحة مجتمعية معينة، تتقدم الجمعيات والفرق التي تتوفر فيها الشروط المطلوبة وبنفس الوقت تدار من السلطة مباشرة ليرسوا عليها المشروع الأممي أو المجتمعي.

 غالباً ما يتم تقسيم مال المشروع بين حصة "المُشغل" وتكون الأكبر وجزء للتنفيذ والتي بالكاد تكفي، لذلك يطلق المشغل دعوى تطوع يكون أحياناً مأجوراً وغالباً يكون تطوعاً غير مأجور يترافق بمنح "شهادة متطوع" أي منح المتطوع وثيقة خبرة قد تفتح له إمكانية العمل مع المنظمات الدولية ولو بعقود شهرية؛ نذكر من هذه الجمعيات "فريق سند التنموي" التابع بشكل غير مباشر للأمانة السورية للتنمية والذي يعتبر أحد أكبر الفرق الشبابية التطوعية الفعّالة في دمشق وحماة وحلب.

على المستوى الفردي دفعت هذه الهرمية منتسبي الفرق المجتمعية غير المرخصة لبناء علاقات مع سلم موظفي المنظمات غير الحكومية المرخصة ذات المشاريع الممولة على أمل الحصول على فرص عمل دائم أو عقود مؤقتة أو أي عمل في ظل الانهيار الاقتصادي الذي يعصف بسوريا، أما على مستوى الفرق فقد أصبحت تحركاتهم المجتمعية أكثر تودداً وانسجاماً مع توجهات السلطة والأمانة السورية للتنمية عوضاً عن التركيز على الخدمات المجتمعية والبحث عن مستحقيها. من لا يلتزم بهذاالمسار يستدعى بشكل متكرر لأقرب فرع أمن سياسي عليه، وهو ما شهد خلال كارثة الزلزال عبر اعتقال الناشطين مثل "معين علي" خلال محاولته ايصال المساعدات للمتضررين من الكارثة، فلا يسمح لأي شخص بالعمل الإغاثي وتلقي الأموال دون المرور من جيوب الواجهة الرسمية غير الحكومية.

هذا السلوك يتجاوز المتطوعين والفرق المجتمعية المحلية ليصل إلى المنظمات الأجنبية المقدمة للتمويل التي توجهت أكثر لمغازلة السلطة ليسمح لها بالاستمرار بالعمل عوضاً عن السعي لتوسيع رقعة خدماتها للوصول لكل متضرري الحرب، أي العمل على مستوى السلطة الصاعد عوضاً عن توسعة مجال العمل الأفقي على الأرض ، كزيارة وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث للأسد على هامش كارثة 6 شباط ، عوضاً عن تفقد أحوال السوريين المنكوبين في حلب واللاذقية.

الديكتاتوريات وتقييد عمل المنظمات.. سوريا ليست استثناءً

سوريا ليست استثناءً في التحكم بمنظمات المجتمع الدولي والمنظمات غير الحكومية المحلية، فدول الربيع العربي التي شهدت خلال السنوات الـ 12 المنصرمة انتقالاً من سلطوية سياسية إلى ديكتاتورية بنكهة ثورية عسكرية زيادة في معدلات انتهاك حقوق الإنسان كما هو الحال في مصر التي أقر رئيس سلطتها "عبد الفتاح السيسي" القانون رقم 70 الذي يشترط على المنظمات الأجنبية طلب إذن في العمل من الجهة المختصة لتمنح في حال انسجم مع توجهات الدولة التنموية حيث يخضع تمويل هذه الجمعيات للمراقبة والمحاصصة.

لا يقتصر الأمر على دول الربيع العربي فهذا التضييق بقلب ديكتاتوريات "الدول العظمى" مثل روسيا التي أجاز فيها بوتين قانون المنظمات غير الحكومية وغير المرغوب بها سنة 2015  ، حيث يتم إدراج أي منظمة في العالم لا تروق للحكومة ضمن قائمتها السوداء وتلقائياً تمنع المنظمة من دخول روسيا والعمل فيها بغض النظر إن كانت منظمة دولية أو أجنبية. أما الصين فقد أقرت قانون إدارة أنشطة المنظمات غير الحكومية الدولية سنة 2017،  الذي يحظر عمل أي منظمة يُظَنُ أنها تضر بالمصلحة الوطنية الصينية أو وحدتها العرقية، وهي تهمة في حال شك أحد ما في الأجهزة الأمنية بعمل منظمة أجنبية ما فهذا كاف ليتعرض العاملون فيها للملاحقة الجنائية وحظر العمل في الصين لخمس سنوات, وهذا من شأنه خنق المجتمع المدني وزيادة القيود المفروضة عليه مع تسهيل ملاحقة أفرادها من أي جهة حكومية، كنتيجة للإدارة الأمنية السلطوية، ومنظمات المجتمع المدني – غير الحكومية – في كل من روسيا والصين موجودة بالقرب من الأجهزة الأمنية وتحت رقابتها في حال كان لها أثر.

النظام يتسول باسم السوريين

حاول ناقل قصة الطفلين وهو متطوع في المجتمع المدني السوري بدمشق أن يساعدهما، فبدأ بالتواصل مع الفرق المدنية التي عمل معها والتي كانت مشاريعها و"تمويلها" يصب في خطط أخرى إما تغطي مناطق أخرى، أو تقدم خدمات مجتمعية لا تشمل العوائل أو أنها موجهة لتمكين النساء لا الأطفال اليوم؛ محاولات باءت بالفشل لأنها خارجة عن دائرة مال الدعم المقدم لسوريا والذي يخرج من جيب الممول الأممي إلى جيوب المنظمات غير الحكومية القريبة من الحكومة متجهاً إلى جيوب ومشاريع صممت على مقاس مستفيدين آخرين غير الذين تراهم في طرقات وشوارع سوريا، مجتمع مدني ومنظمات تدور في فضاء مشاريع الدولة وتوجهاتها تاركة السوريين بصغيرهم وكبيرهم للتشرد والفقر المتصاعد ليبقوا أداة الأسد للتسول على أبواب الأمم.