icon
التغطية الحية

فورين بوليسي: لماذا كل هذا الاهتمام بالقضية الأوكرانية مقارنة مع حلب وغروزني؟

2022.04.06 | 12:47 دمشق

أشخاص يشعلون الشموع في وقفة احتجاجية تضامناً مع ضحايا ليفيف بأوكرانيا بسبب العدوان الروسي في 5 نيسان 2022
أشخاص يشعلون الشموع في وقفة احتجاجية تضامناً مع ضحايا ليفيف بأوكرانيا بسبب العدوان الروسي في 5 نيسان 2022
فورين بوليسي - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

خلال الشهر الماضي، رفعت مجالس الولايات الأميركية العلم الأوكراني في مختلف أنحاء البلاد، وزين به لاعبو كرة القدم الألمان قمصانهم، كما ظهر ذلك العلم في مختلف أنحاء العالم من خلال فن طلي الشوارع الذي انتشر مؤخراً. ولقد رحب المواطنون في الدول الأوروبية باللاجئين في ديارهم، واحتشدت جموع غفيرة من المتظاهرين في المدن المنتشرة في العديد من القارات للمطالبة بإنهاء الغزو الروسي لأوكرانيا. أما على المستوى الدبلوماسي، فقد أنشأ حلفاء أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي وفي الدول الأوروبية نظام عقوبات بسرعة غير مسبوقة وفتحوا نقاشات حول إمكانية إنشاء محكمة دولية لمحاكمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على عدوانه الذي تجاوز كل القوانين.

وبفضل الصور والشهادات المرعبة التي وصلت من بوتشا الأوكرانية خلال الأيام القليلة الماضية، ومع ازدياد اليقين بأن القادم أسوأ، أصبحت مسألة المحاسبة على انتهاكات القانون الدولي ملحة بصورة أكبر، ولهذا انتشرت الدعوات عبر وسم #حاكموا_بوتين على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث دعت قادة الدول ورؤساءها لدعم أي مطالبة بإقامة محاكمات بخصوص جرائم الحرب المرتكبة.

لماذا كل هذا الاهتمام بالقضية الأوكرانية؟

كان تدفق الدعم والتضامن الدولي للشعب الأوكراني المحاصر مؤثراً بشكل كبير، كما كان من المدهش أن يتجاوز الغضب العارم المبرر الذي يدعم مطالب الشعب الأوكراني أي اهتمام معهود بضحايا أي نزاع عنيف آخر، فقد كانت الأساليب الوحشية ذات الأثر التدميري والتي نفذتها القوات الروسية ضد المدن الأوكرانية عبارة عن وسائل سبق لروسيا أن استخدمتها بحق الشعبين الشيشاني والسوري، إذ إن المجازر التي وقعت في بوتشا تشبه المجازر التي حدثت بحق المدنيين في ضواحي غروزني الشيشانية في مطلع الألفية الثالثة و"الجرائم التي وقعت بنسب تاريخية" والتي ارتكبت بحق أهالي حلب السورية خلال العقد الماضي. ولهذا من المبرر أن يتساءل من نجوا من تلك النزاعات وغيرها عن سبب عدم توجيه هذا القدر من الاهتمام بقضيتهم عندما وقعت تلك المجازر.

هنالك على الأقل إجابة واضحة على هذا السؤال وهي: إن العنصرية ورهاب الإسلام يمنعان ظهور أي تعاطف، كما أن الضحايا الملونين الذين تعرضوا للجرائم نفسها يتم تأطيرهم بشكل علني غالباً بوصفهم أدنى رتبة من حيث أحقيتهم بالاهتمام والتعاطف والحماية. وحتى عندما لا تمارس تلك العملية بصورة متعمدة أو علنية، نجد بأن حجم التغطية الإعلامية التي حظيت بها أوكرانيا ساعد على خلق حالة تضامن مع الشعب الأوكراني، في حين لم يحظ الضحايا في اليمن مثلاً بمثل هذا التعاطف.

بيد أن هنالك شيئا آخر يحدث بالإضافة لذلك والذي يجعل الضحايا الأوكرانيين أكثر ظهوراً على الساحة الدولية مقارنة بضحايا الشيشان وسوريا والتاميل والأويغور والروهينغيا الذين تعرضوا للمستويات ذاتها من العنف، وذلك لأن القانون الدولي وضع هو والمنظمات الدولية لحماية دول من دول أخرى، في حين أن من يتعرضون للهجوم من قبل حكوماتهم لا يحظون إلا بقدر أقل من الحماية، فضلاً عن قلة عدد الجهات الراغبة بالتحالف معهم والوقوف في صفهم.

فقد تعرض السوريون للقتل على يد نظام الأسد وحلفائه الروس مثلاً، وحدث كل ذلك ضمن إطار منظومة دولية أقيمت لحماية حقوق الدولة السورية وحقها بحكم مواطنيها، وبعدما عرضت الأدلة التي تثبت وقوع هجمات بالسلاح الكيماوي ضد المدنيين، لم تبد أي دولة، سواء أكانت متحضرة أم نامية، استعدادها لاتخاذ إجراء قد يحمل أي تهديد لحق النظام بالسيادة على سوريا أو حقه بالتصرف داخل حدود بلاده، حيث استشهدت تلك الدول بسلطة الدولة السورية التي لا يجوز انتهاكها، حتى في الوقت الذي أخذت فيه تشجب أفعال نظام تلك الدولة! وفي تلك الأثناء، توجب على الضحايا من السوريين ومن يدافع عنهم أن يتوجهوا لسلسلة أضعف من سبل الحماية، والتي تتمثل بقانون حقوق الإنسان الذي يعتمد على الدول القمعية نفسها بما أنه ينبغي عليها أن تفرضه وتعمل بموجبه، إلى جانب لجوئهم إلى مذاهب وعقائد مثل مسؤولية الحماية، التي تعيد تأطير سلطة الدولة بوصفها مكلفة بالرعاية.

مبدأ عدم التدخل احتراماً للسيادة

إن مبدأ السيادة وعدم التدخل يدعمان الإجراءات القانونية التي تتم بين الدول، وذلك لأن المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه العلاقات الدولية يتمثل باعتراف الدول بحق كل دولة بحكم أراضيها وشعبها، ولذلك يعتبر الغزو الروسي خرقاً لوحدة الأراضي الأوكرانية وحق أوكرانيا بالسيادة والحكم، أما مسألة تعرض الشعب الأوكراني لأبشع أنواع الموت فتعتبر كارثة بشرية، إلا أن الأمر الذي يزيل التعقيد عن تلك المسألة بالنسبة لظهور استجابة دولية إزاء ما يجري يتلخص في قيام الروس بقتل الشعب الأوكراني، دون موافقة أو تواطؤ من قبل حكومة أوكرانيا. وبما أن الحكومة الأوكرانية أضحت ضحية لغزو أجنبي جلي، إلى جانب جرائم الحرب التي ارتكبتها قوة خارجية، لذا يمكن لتلك الحكومة أن تستند إلى مجموعة واضحة من مبادئ القانون الدولي التي تحظر أي عدوان على أراضيها.

لقد أظهرت الحملة الدبلوماسية المذهلة التي شنتها أوكرانيا عدم شرعية ما تمارسه روسيا في أفعال، كما بينت بشكل حاسم الكلفة المترتبة على ذلك من منظور القيم والمبادئ الدولية المشتركة. إذ على مختلف الأصعدة وفي مختلف المحافل الدولية، والتي تشمل كلاً من مجلس الأمن الدولي والجمعية العمومية ومحكمة العدل الدولية والكونغرس الأميركي والبرلمان الأوروبي، ربط الدبلوماسيون الأوكرانيون مصير بلادهم بمصير الديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام والقانون الدولي في العالم بأسره بشكل واضح وجلي، حيث أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أمام الكونغرس الأميركي بأن نضال أوكرانيا هو نضال "من أجل حقوق الإنسان والحرية والحق بعيش حياة كريمة، والموت عندما يأتي الأجل، لا عندما يقرر أحد آخر، وهو جارك، أن أجلك قد حان لتموت".

لقد كانت تلك دعوة قوية كونها استشهدت بأسبقية القانون والحقوق على القوة والهيمنة والإخضاع، ثم إن الانتصارات المدوية التي حققتها أوكرانيا في الجمعية العمومية ومحكمة العدل الدولية إلى جانب العدد الهائل من الإحالات للمحكمة الجنائية الدولية تعكس مدى إقتناع الدول باحتكام أوكرانيا للقانون، إذ أبدت تلك الدول إيمانها الشديد بقيام روسيا بارتكاب عمل عدواني مخالف للقانون، إلا أن الأغرب من هذا هو وقوف وتضامن ممثلي الدول النامية مع أوكرانيا، وذلك عندما ربطوا مصيرها ببقائهم ووضعوا الاعتداء الروسي ضمن إطار التهديد الخطير للنظام العالمي.  

"حصان طروادة"

لكن لو توجه احتكام أوكرانيا بشكل مؤثر إلى القانون الدولي بالخطاب إلى جمهور مختلف، كجمهور الدول القوية التي أقامت المنظومة الدولية ورتبت أمورها لصالحها، وإلى حكومات الدول النامية التي تسعى لحماية سيادتها، وإلى المجتمعات المهمشة التي تعيش في خوف من حكوماتها، عندها لن تصبح تلك الحالة مناسبة لضحايا العنف الكثر على مستوى العالم، فقد قتل السوريون أيضاً بسبب الحصار والقصف الروسي، ولكنهم قتلوا بناء على طلب من حكومة بلادهم. وفي الوقت الذي يتمتع فيه الشعب السوري والأوكراني بحقوق الإنسان ذاتها بموجب القانون الدولي، تحتكر كل من حكومة النظام السوري وحكومة أوكرانيا مسألة التمسك بتلك الحقوق والالتزام بها.

إن الترتيبات المؤسساتية لحماية المدنيين عندما لا تلتزم حكومات بلادهم باحترام حقوقهم أضعف بكثير وتخضع لتنازع كبير مقارنة بتلك الترتيبات التي تحمي الدول من المخالفات والانتهاكات التي ترتكبها دول أخرى بحقها. بل حتى أشد المراقبين من الخارج حماسة لا يملكون سوى أدوات بسيطة قليلة لحشد الشارع عندما تقوم أنظمة مجرمة عقدت العزم على قتل شعبها باستهداف الشعوب التي تحكمها، وذلك لأن بعض التأويلات الخاصة بالقانون الدولي تعترف بعدم وجود سبب مشروع لخرق سيادة دولة أخرى، حتى لو بلغ الأمر حد ارتكاب عملية إبادة جماعية بالفعل، كما أن الجهود الساعية لقوننة آليات معينة الهدف منها حماية الشعب من حكومة بلاده ماتزال ضعيفة من ناحية الشكل، وشائكة عند التنفيذ، أما أكثر تلك الآليات تطوراً، فهي آلية مسؤولية الحماية، وهي عبارة عن عقيدة ومبدأ ترسخ بصورة فعلية وتم تبنيه في عام 2005، وقد ظهرت تلك الآلية عقب المجازر التي ارتكبت في رواندا ودول البلقان، إذ يعيد هذا المبدأ صياغة فكرة سيادة الدولة بوصفها مسؤولة عن حماية شعبها من المجازر وجرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية، كما أنها توكل للمجتمع الدولي مسؤولية مساعدة الدول على حماية شعوبها، وتسند له مهمة التدخل بشكل سلمي في البداية ثم بصورة قسرية في حال أبدت دولة ما عدم استعدادها أو عدم قدرتها على حماية شعبها. وبالرغم من أن أصول هذا المبدأ تعود إلى الدول النامية، إلا أن غالبية الحكومات التي نشأت في الحقبة ما بعد الاستعمارية تنظر إلى هذه الآلية على أنها "حصان طروادة" وذلك لشرعنة التدخل الإمبريالي الجديد من جانب واحد، لأنه إذا كان ميثاق الأمم المتحدة يعمل على حفظ السلم والأمن الدوليين عبر حظر أي حرب عدوانية، ويتمسك بمبدأ عدم التدخل احتراماً لسيادة الدول، عندها ستتحول تلك الآلية المختصة بمسؤولية الحماية إلى وسيلة لتمرير الحرب العدوانية ضد الدول الضعيفة لتصل إلى الساحة الدولية بمباركة من قبل الأمم المتحدة، وخلف هذا التشكيك، يظهر تبرير حلف شمال الأطلسي للتدخل الصريح في ليبيا في عام 2011 وذلك عبر الاستناد إلى آلية مسؤولية الحماية، وهذا ما عزز حالة التلازم بين هذا المبدأ وبين فكرة تغيير النظام التي تزعمها الغرب والتي أثبتت بأنها فاشلة.

وبناء عليه، حتى الدول التي يقض مضجعها ذلك القلق المشروع على ضحايا عنف الدولة قد تصبح أشد حذراً وهي تحاول أن تستشهد بمبدأ مسؤولية الحماية أو عندما تقترح التدخل بصورة أقوى والذي قد يثير تساؤلات حول الاحتكام إلى مبدأ عدم التدخل بالدول احتراماً لسيادتها، وذلك لأن الدول قد لا تجد أي تناقض في تقديمها لدعم كامل لحجة أوكرانيا القائمة على القانون الدولي، في الوقت الذي تعارض فيه أي تحرك لصالح المدنيين الذين يتعرضون لهجوم من قبل حكوماتهم. والحق يقال إن أغلب الدول التي تعبّر عن تضامنها مع أوكرانيا وتستنكر العنف الذي يمارس بحق المدنيين اليوم، هي نفسها التي رفضت بشدة التدخل الدولي لحماية حقوق الإنسان بشكل أكبر في الأمس.

لن تعيد حتى أقوى استجابة دولية تجاه الشعب الأوكراني ما أُخذ منه، فقد خسر الآلاف بيوتهم، وشاهدوا بأم أعينهم أحبابهم وهم يقتلون بصورة عنيفة، كما تعرضت حياتهم للتدمير هي الأخرى، لذا لا بد وأن يترك هذا الشعب لمصيره وهو يتعامل مع الإرث المدمر الذي خلفته هذه الصدمة، شأنه شأن غيره من ضحايا الجرائم الجماعية. إلا أن حظوظ الشعب الأوكراني قد تكون أفضل من حظوظ أغلب الضحايا، وذلك عندما يشهدون عقاب من قاموا بتسطير تلك الجرائم وارتكبوها بحقهم. ثم إن عدم خضوع السياسة الدولية لحالة تنازع بالنسبة لمطالبة أوكرانيا بالعدالة إلى جانب ظهور حالة سخط وتعبئة شعبية كبيرة على المستوى العالمي يعتبر فرصة نادرة لفرض تبعات وعواقب شديدة على المسؤولين عن ارتكاب تلك الجرائم الجماعية. وفي نهاية الأمر، لا بد وأن يكشف كل ذلك عن بصيص أمل، ليس فقط بالنسبة لمعاناة الشعب الأوكراني في ظل الاعتداء الروسي المخالف للقانون، بل أيضاً بالنسبة لكل ضحايا إرهاب الدولة ووحشيتها في أي مكان من هذا العالم.

المصدر: فورين بوليسي