الإرادة الشعبية وسيادة الدولة

2019.12.03 | 14:31 دمشق

2019-12-03t105130z_1511723400_rc2mnd91mymo_rtrmadp_3_iraq-protests.jpg
+A
حجم الخط
-A

أطلق بعضُ الساسة والمفكّرين في الغرب على ثورات الشعوب العربيّة التي بدأت أواخر عام 2010 أوائل 2011 مصطلح "الربيع العربي"، وجاء ذلك قياساً على مصطلح ربيع الشعوب الذي ساد في أوروبا بعد انتهاء حرب الثلاثين عاماً والتي تُوّجت بمعاهدة وستفاليا عام 1648، وظهر أو نشأ نتيجة لها مبدأ سيادة الدولة. لقد أنهت تلك المعاهدة صراعاً مريراً بين السلطة الزمنيّة ممثلة بالملوك والأمراء وبين السلطة الدينيّة ممثلة بالكنيسة، وقد يكون إطلاق المصطلح على واقع ثوراتنا ناتجاً عن انطباع مُسبق لدى الغربيّين حولها وحول طبيعة مجتمعاتنا العربيّة.

 انقضت الموجة الأولى من ثورات الشعوب العربيّة بنتائج كارثيّة في ليبيا واليمن ومصر وسوريا، وكانت الحالة التونسيّة استثناءً لم يُكتب له - لسوء الحظ - أن يعمّ الأرجاء.

لكن وقبل أشهر عادت هذه الشعوبُ لتُشعل ثوراتها مجدداً، بدءاً من الجزائر غرباً مروراً بالسودان وصولاً إلى العراق ولبنان شرقاً. وهذه المرّة جاءت بجديد يُعيد التفاؤل ويبثّ الأمل في القلوب المتعبة المنكسرة، ويشدّ العزائم بعد ما أصابها من وهن وقنوط. وقد رفع من نسبة الأدرنالين في عروق هذه الشعوب الانتصار المبدئيّ للجزائريين المتمثّل باستقالة الرئيس بوتفليقة، وكذلك الإطاحة بالرئيس البشير واثنين من رموز حكمه ممن خلفوه مباشرة، كما عزّزت ذلك أيضاً استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري ثم نظيره العراقي عادل عبد المهدي يوم 29-11-2019 بعد المجزرة التي ارتكبتها قوّات الأمن بالمتظاهرين السلميين في الناصرية وذي قار وغيرها من المدن.

باستثناء السودان، نجد قاسماً مشتركاً بين ثورات العراق ولبنان والجزائر حتى الآن، وهو غياب القيادة الثوريّة

لقد بدا واضحاً للعيان استفادة الثائرين في الموجة الثانية من دروس الفشل الكبيرة والنجاحات القليلة التي حققها ثوّار الموجة الأولى. ففي جميع هذه البلدان تميّزت الموجة الثانية بالسلميّة والإصرار عليها، وبالمشاركة الواسعة لأغلب أطياف الشعوب الثائرة، كما تميّزت بالحضور الواسع للمرأة، خاصّة في لبنان حيث اتّسم إسهامها بالريادة والقيادة في بلد عانى خمسة عشر عاماً من الحرب الأهليّة. وقد يكون من أسباب هذه المشاركة الواسعة للعنصر النسائي هنا انخفاض نسبة الرجال قياساً إلى نسبة النساء بسبب الحروب المتعاقبة منذ العام 1975، والهجرة والاغتراب الكثيفين، والوعي الزائد للنساء بدورهنّ في المجتمع، ورفضهنّ التهميش، وإدراكهنّ مضاءة سلاح السلميّة، بالفصل بين المتظاهرين من الرجال وبين قوّات الأمن والجيش وشبّيحة ميليشيات برّي ونصر الله.

باستثناء السودان، نجد قاسماً مشتركاً بين ثورات العراق ولبنان والجزائر حتى الآن، وهو غياب القيادة الثوريّة. ثمّة بكلّ تأكيد تنسيق معيّن بين الجموع الشبابيّة والأهلية الفاعلة في الشوارع والساحات، لكن لم تظهر حتى الآن مجموعات محددّة تتكلّم باسم هذا الحراك الثوري. لقد كانت هذه النقطة بالذات نقطة قوّة في بداية ثورة الليبيين والسوريين، لأنها كانت شكلاً من أشكال العفويّة أولاً وطريقة للحفاظ على الثورة في بلدين محكومين بأعتى أنواع الحكم الديكتاتوري في العالم ثانياً. لكنّ ذلك انقلب وبالاً فيما بعد على الثورة السوريّة بالأخص، فأصبح غياب القيادة عنواناً للتشرذم وتشتت عناصر القوة وضياع القرار والانحراف عن أهداف الثورة، وحتى عن قيمها ومبادئها.

إنّه لمن غير المفهوم تأخّر ظهور هذه القيادة في بلد مثل الجزائر، فقد بات واضحاً أن الجيش مهتمّ بقيادة عمليّة التغيير لا بعرقلتها ما دامت لن تمسّ مكانته ومصالحه، كما إنّه لن يقدم على مجابهة الناس أو فئة محددة منهم على الأقل، كما حصل بدايات التسعينات من القرن الماضي. كذلك فإنّ لبنان القائم على توازنات دقيقة جدّاً – لعلّ من بين أهمّها أنّ الجيش ريّما يكون في الحقيقة القوّة العسكريّة الثانية في البلد بعد قوّات حزب الله – ليس بوارد الدخول في حالة قمع شديدة يخشى منها اللبنانيون على قياداتهم من الاعتقال أو التصفية الممنهجة كما حصل في سوريا. فرغم استفزازات عناصر حزب الله وحركة أمل الدائمة، ورغم اعتداءاتهم المتكررة على المتظاهرين، إلا  أنّ الوضع عموماً يسمح بظهور قيادة من بعض الرموز الشبابيّة أو الشعبيّة من غير الفئات السياسية التقليديّة.

في مواجهة هذه الإرادة الشعبيّة ترفع الأنظمة عامّة حجّة الأمن والاستقرار، وتتبعها في حالات الحرج بالتلويح بحجّة الإرهاب، الذي بات بضاعة رائجة عالميّاً، وتختلف النغمة بالطبع حسب كلّ دولة وظروفها. هناك بالمجمل فئة مستفيدة من الواقع تتمثّل بأقليّة من السياسيّين ورجال الجيش والمخابرات والتجّار ورجال الأعمال، وهذه الفئة مستعدّة للقيام بأي شيء للحفاظ على مصالحها بما في ذلك استدعاء التدخّل الأجنبي، وفئة أخرى متضررة من هذا الوضع تتمثّل بأغلبيّة كبيرة من أفراد الشعب بمختلف أطيافهم. وقد سمعنا من إعلام النظام العراقي عن هرب مجموعة من سجناء داعش من سجن التسفيرات التابع لجهاز مكافحة الإرهاب في منطقة الفيصلية في الموصل مركز محافظة نينوى. إنّه سيناريو مكرّر ومدروس يحاول النظام العراقي إعادة تفعيله لدعشنة وشيطنة الثورة في بغداد وفي جنوب البلاد، كما سمعنا ورأينا ميليشيات الحشد الشعبي وقوّات الحرس الثوري الإيراني في ساحات العراق تقنص وتقتل بكلّ شراسة.

سيكون على ثوّار العراق ولبنان والجزائر الاعتماد على أنفسهم في إنجاز قضاياهم وتحقيق انتصارهم. يجب ألّا ينتظروا خيراً من أحد مهما ادعى وصلاً بليلى. فالأوربيّون لا يُعلّقُ عاقل عليهم، والأمريكيون رأينا فعلهم عندما دمّروا بنية الدولة العراقيّة وحطّموا مؤسساتها ومزّقوا مجتمعها ومن ثمّ سلّموها لقمة سائغة لإيران. أمّا الأنظمة العربية فهي تغطّ في سبات عميق، وليس لأي منها مصلحة بانتصار ثورة شعبيّة قد يكون من نتائجها الإتيان بنظام حكم ديمقراطي ليبرالي وطني. أمّا الروس فهم المروّجون لفكرة فشل الديمقراطية الغربيّة ويضربون الأمثلة عليها بفشل حركات التحوّل الديمقراطي في العالم العربي.

في مواجهة هذه الإرادة الشعبيّة ترفع الأنظمة عامّة حجّة الأمن والاستقرار، وتتبعها في حالات الحرج بالتلويح بحجّة الإرهاب

ينظّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لهذا الأمر، لكنّه لا يضع مقابل النظام الديمقراطي الليبرالي – كنظام حكم سياسي – أي بديل كما كان يفعل قادة الاتحاد السوفيتي بالاشتراكيّة سابقاً، بل يتمسّك بمبدأ سيادة الدولة بشكله البدائي الأول الذي نتج عن معاهدة وستفاليا كما أسلفنا، والذي عُبر عنه وقتها بمقولة " الناس على دين ملوكهم" وهذا يعني من وجهة نظر بوتين أنّ سيادة الدولة تعني أحقيّة النظام بأن يفعل بشعبه ما يشاء في حدود سيادته، وهذا بات واضحاً من خلال دعمه المطلق مع حليفه الصيني للديكتاتوريّات وأنظمة الاستبداد في العالم، بدءاً بنظام الأسد مروراً بحفتر ووصولاً إلى نيكولاس مادورو في فنزويلا.

المشكلة الكبرى التي تواجه الثوّار هي إحلال أنظمة حكم جديدة مكان أنظمة الحكم التي يسعون لإسقاطها، فالثورات بالتعريف هي محاولة تغيير أنظمة الحكم من خارجها، وبغير أدوات التغيير الدستورية والديمقراطية بعد أن أغلقت الأنظمة الفضاء العام أمام هذه الإمكانيات. إنّ مهمّة الثورة والثوّار لا تنتهي بإسقاط أنظمة الحكم إذن، ولذلك عليهم أن ينتجوا من بين ظهرانيهم قيادات سياسية قادرة على صناعة اليوم التالي للتغيير، ولا يمكن لهم أن يكتفوا بحكومات تكنوقراط أبداً. إنّ التكنوقراط غير قادرين على بناء أنظمة حكم ديمقراطية ليبراليّة بعد التحولات الثورية الكبرى في المجتمعات، فهذه بحاجة لسياسيّين أصحاب رؤى وطنيّة واضحة.

إنّ مهمّة الثوار في الجزائر والعراق ولبنان صعبة للغاية، فالفئة السياسيّة في هذه البلدان ملوّثة حتى النخاع بالفساد، وتزيد على ذلك في لبنان بالمحاصصة المكرّسة باتفاق الطائف، وفي العراق تزيد أيضاً بتبعيّتها المباشرة للاحتلال الإيراني. العقدة في هذه البلدان أكبر من أن يتمّ حلحلتها بمجرّد إسقاط الأنظمة، وقد رأينا بأعيننا وعايشنا وما نزال تجربة مصر مثالاً حيّاً لعدم استكمال المهام الثورية بإفراز طبقة سياسية من بين الثائرين قادرة على نقل البلدان إلى عتبات جديدة. هنا وهنا فقط عندما تنجز الثورات مهامها يمكن أن تتحد الإرادة الشعبيّة مع مفهوم السيادة لتبني وطناً جديداً لجميع بناته وأبنائه، ووفقاً لمصالحهم ورؤاهم لا وفقاً لما يريده أو يراه الغرب والشرق.