معضلة الثورة.. معارضة فقط أم سلطة جديدة؟!

2023.12.21 | 07:23 دمشق

آخر تحديث: 21.12.2023 | 07:23 دمشق

معضلة الثورة.. معارضة فقط أم سلطة جديدة؟!
+A
حجم الخط
-A

الثورة هي خيار الكي عند الشعوب، لا تستعملها إلا اضطرارا أخيرا بعد فشل كل أدوات الإصلاح والتغيير الهادئة، بحيث لا يبقى إلا الانقلاب العنيف على السلطة القائمة لفرض التغيير المراد بالقوة.

صعوبة الثورة هي في خلق حالة تنظيمية تنبثق منها، فالثورة في معناها المجرد تعني الفوضى، والانفلات من القيود، لذلك إنتاج تنظيم، وضوابط من هذه الفوضى يعد أمرا صعبا ومزعجا، لكنه ضروري جدا لتصل الثورة لهدفها، لأن الصراع بين سلطتين قديمة هرمة خرجت ثورة عليها لإزاحتها، وجديدة فتية ممتلئة بالعنفوان تهدف للنصر والسلطة، يجعل فرص نجاح الجديدة أكثر، أما حصر الصراع بين سلطة قديمة متجذرة، راكمت الخبرات والموارد والشرعية، مع حالة من الهيجان والتمرد لم تستطع أن تنظم نفسها، وتثبت لمحيطها الداخلي والخارجي أنها يمكن أن تكون البديل عن السلطة القديمة، فذلك يجعل فرص السلطة القديمة بالفوز أكبر، فدائما التنظيم يغلب الفوضى.

حين يصرّ الثوار العيش بعقلية المعارضة لكل شيء حفاظا على طهرانيتهم الثورية، عليهم أن يتذكروا أن من يقارعونهم من أعداء، وكثيرا من منافسيهم، وخصومهم، لم يحصروا أنفسهم في زاوية المعارضة الضيقة حفاظا على الطهرانية

كثيرا ما نجد بعض أبناء الثورة مصرّا على تقمص عقلية المعارضة في كل شيء، وتجاه كل شيء، ويظن ذلك نوعا من الطهرانية الأخلاقية، والوعي، لكن الحقيقة أنه هروب من واجب مهم ولو كان ثقيلا، وسذاجة سياسية، وإشباع لهوى النفس بممارسة دور الولي الصالح، وآخر الصادقين، على المُدَنَسين ممن يحاولون نحت الصخر بأظافرهم لإيجاد الخيارات الأفضل، أو الأقل سوءا بالحد الأدنى.

حين يصرّ الثوار على العيش بعقلية المعارضة لكل شيء حفاظا على طهرانيتهم الثورية، عليهم أن يتذكروا أن من يقارعونهم من أعداء، وكثيرا من منافسيهم، وخصومهم، لم يحصروا أنفسهم في زاوية المعارضة الضيقة حفاظا على الطهرانية، بل نزلوا من بروج التنظر العاجية، لأرض التطبيق الوعرة وسعوا لتأسيس سلطات تفرض نفسها واقعا، ثم لاحقا لا تلبث أن تجد من يعترف بها ويتعامل معها، ويدعمها، وهذا من أبجديات السياسة، لأن الثورة بمفهومها السياسي المجرد هي انقلاب على السلطة السياسية القائمة، بغية تشكيل سلطة جديدة، فإذا تقاعس أبناؤها عن إيجاد عقد سياسي يجمعهم، وتكاسلوا عن التوافق والتطاوع بينهم لتشكيل سلطة سياسية جديدة تزيح القديمة وتنوب عنها، فلماذا إذن امتشقوا السلاح، وقاتلوا، وقَتلوا، وقُتِلوا، ومزقوا أوطانهم ومجتمعاتهم بالحروب؟

قد يسأل البعض: "هب أن الثورة تعددت فيها السلطات، وتضاربت، فعلى أيها نعوّل، ولأيها ننحاز؟"

الجواب هو للأكثر وطنية (ونقصد بالوطنية التشكيل بظروف، وأيدٍ محلية)، والأكثر قابلية للتطور والإصلاح، والتي تحوي هامش حرية أكبر، وقيودا أقل على العاملين فيها، ويطغى عليها اللون الوطني المحلي أكثر من مثيلاتها، ولنتذكر أننا نتكلم ونقارن بنسبية، لأن ظروف الثورات عادة لا تقدم خيارات وردية نموذجية.

وهنا سؤال آخر يتوارد: "ماذا لو أن الثورة شكلت سلطة لكنها لم تلقَ اعترافا؟"

جواب ذلك أن تشكيل الثورة لسلطة احتياج مهم للبقاء والنجاح، قبل أن يكون خيارا تسويقيا خارجيا، فالسلطة حالة تنظيمية تسهل العمل وتضبطه، وتشرعن الوجود والممارسات، وأيضا تشجع الأطراف الخارجية على تقديم الدعم بمختلف أشكاله، أما موضوع الاعتراف فيرتبط ذلك بمدى قوة وفعالية السلطة الحديثة على الأرض، والخبرات التي تراكمها، وقدرتها على فتح علاقات خارجية، خاصة أن لكل نظام سياسي خصوما، ولكل دولة مصالح، والقوي يُجبر الجميع على التعامل معه، أما الضعيف فقد يلقَى بعض التعاطف، إلا أن الجميع يبتعد عنه، ولا يكلف نفسه عناء مساعدته.

تملك الثورات الشعبية، والانقلابات العسكرية، اليوم على السواء فرصة نجاح كبيرة أكثر من السنوات السابقة، لأن السيطرة القطبية الواحدة لأميركا، واحتكار السلاح، والتكنولوجيا، والدعم المالي، والتمويني لم يعد موجودا، فالعالم أصبح يشهد صعود أقطاب دولية جديدة كروسيا والصين، ولذلك رأينا انقلابات عسكرية في دول إفريقية على أنظمة كانت مستقرة تتبع لفرنسا، من نخب عسكرية مدعومة من روسيا، وترفع شعارات مناهضة للسيطرة الغربية، ولحقبة الاحتلال السابقة، وليس الغرض من هذا الكلام إبراز خيرية طرف على طرف، بل غايته إثبات أن تعدد الأقطاب العالمية يحوي فرصا في الوجود والنجاح للطامحين، وهي حالة تذكر بفترة الحرب الباردة، وصراع المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، وكيف خلق ذلك فرصا للأفكار الجديدة، والقوى الطامحة الصاعدة في دول العالم الثالث.

مهما كرهنا السلطة، ونقدنا عيوبها، وذممنا أصحابها، إلا أنها شر لا بد منه، وحتمية بشرية لا فكاك عنها

من المغالطات التي يعتقدها بعضهم أن وجود السلطة سيعني بالضرورة القمع، ومصادرة الحريات، ولذلك يفضلون حالة الفوضى، واللاسلطة، لكن الحقيقة التي أثبتها الواقع، وتبنتها الأفهام الصحيحة عبر العصور، أن الفوضى هي أكثر ما يضيع الحقوق، ويهدر الحريات، لأن عدم وجود ضوابط تنظيمية، وجهة تمنع القوي من الاعتداء على الضعيف هو السبب الأكبر للظلم، وضياع الحريات، ومن تصفح مسيرة البشرية من بداية عصر التدوين على الرقم الفخارية، وأوراق البردي، وجدران المعابد، حتى اليوم، لوجد أن البشر دائما يجنحون لإنشاء سلطة ينتظمون تحتها، ولا حياة لهم أو استقرار بدونها، أما من يعجزون عن التنظيم، ولا يملكون مرونة العمل الجماعي، فمن الطبيعي أن يروا السلطة والتنظيم قمعا وقيودا لأن وجودهما يقلص من مساحة استفادتهم المادية الشخصية، ولو كانت على حساب معاناة المجتمع العامة، مكلفين أنفسهم عناء مناقضة مسيرة التاريخ الإنساني، ومغالطة ما أجمعت عليه العقول الصحيحة.

مهما كرهنا السلطة، ونقدنا عيوبها، وذممنا أصحابها، إلا أنها شر لا بد منه، وحتمية بشرية لا فكاك عنها، وإن زهدت فيها طائفة من الناس، وأعرضت عنها تنزها عن شرها، أو جهلا بأهميتها، فغالب الناس طامحون لها، متشوقون إليها، لأنها تشبع رغبة الإنسان الفطرية في التملك والظهور، وفي الوقت نفسه هي حاجة أساسية لبقاء المجتمعات البشرية، وأداة رئيسية للازدهار والتطور، وأسهل وأسرع وأكثر فاعلية بين جميع أدوات التغيير، فهي ما ينقل الشعوب للنماء والعمران، أو التخلف والهمجية، مهما كان رقي هذا الشعب أو تأخره، ومهما كان إرثه التاريخي والحضاري.