ليست مؤامرة لكن أين المنطق بما يحصل؟

2021.11.03 | 05:45 دمشق

7e342511b14f42d1a928843f3dcbd14a_6.jpg
+A
حجم الخط
-A

كل ما يحدث في العالم العربي، لا سيما في الدول التي شهدت ثورات واحتجاجات منذ عام 2011 وحتى الآن، يؤكد حقيقة واحدة ونهائية على ما يبدو: ليس مسموحا لشعوب هذه المنطقة البائسة حتى أن تحلم بالديمقراطية والعيش تحت حكم مدني أو علماني يحقق العدالة والمساواة بين مواطنيه، ويحترم حقوقهم ويكفل لهم حاضرا آمنا ومستقبلا كريما، ومكانا يتمسك به أبناؤهم ويساهمون من خلاله في بناء الحضارة الإنسانية والتقدم العلمي وكل ما يخدم البشرية، التي على ما يبدو أنها تخطو خطوات مهولة نحو تغيير مستقبل البشرية وشكل الاجتماع البشري الحالي، باتجاه عالم يخترق الأبعاد المعروفة متوجها نحو الماورائي العلمي الذي يتيح للشركات التي تحكم العالم إحكام سيطرتها تماما على الكوكب، في أكبر تحالف رأسمالي عالمي، سوف ينتج عنه انقسام بشري حاد يفوق ما هو عليه الآن، بين فئات تملك المال وتدخل في العالم الجديد المفتوح على آفاق لا نهائية، وبين فئات سوف تبدو كما لو أنها أهل الكهوف لا تملك ما يؤهلها للمشاركة في المستقبل الذي يتم تصنيعه حاليا، لا على المستوى العلمي ولا المالي ولا حتى النفسي.

سيطر العسكر على البلاد بأنظمة أمنية شمولية مافياوية، استخدمت القضية الفلسطينية كذريعة أبدية لقمع شعوبها تحت بند (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)

هل هناك قرار دولي ما بأن يتم تقويض أية محاولة للصحوة الاجتماعية والسياسية في دول العالم الثالث، لا سيما العالم الإسلامي والعربي منه؟ شخصيا لم أكن يوما من محبي نظرية المؤامرة، لكن ما يحدث في بلادنا يصيبنا جميعا بالصدمة إلى درجة خلط البديهيات أو التعامل معها كما لو أنها مجرد أوهام، فلو عدنا بالتاريخ العربي إلى أربعينيات القرن الماضي، إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، واتفاقية سايكس بيكو، وإنشاء دول إسرائيل، ثم لاحقا ما سمي وقتها (ثورة الضباط الأحرار) في مصر، التي فعلا يصح فيها القول: (لها ما لها وعليها ما عليها)، وانتقال سيناريو (الثورات العسكرية التحررية) كما سميت إلى باقي دول المشرق العربي الكبرى (العراق وسوريا وليبيا والسودان واليمن)، لانتبهنا أن خراب مجتمعاتنا لم يتوقف منذ تلك المرحلة، سيطر العسكر على البلاد بأنظمة أمنية شمولية مافياوية، استخدمت القضية الفلسطينية كذريعة أبدية لقمع شعوبها تحت بند (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)، مستغلة عاطفية الشعوب العربية وغرائزيتها، التي عرفت الأنظمة كيف تزيدها انتعاشا مع ما سمي (الصحوة الإسلامية) في سبعينيات القرن الماضي، والتي أكملت الإجهاز على ما تبقى من مدنية مجتمعاتنا العربية، لتتحول حتى كبرى المجتمعات فيها إلى حالة من القطيعية التي تتوجه حسب اتجاه عصا الأنظمة التي أمسكت بها المؤسسة الدينية جيدا، قابلها من طرف دول الإقليم ثورة الخميني إلإسلامية في إيران، ومحاولة التفلت من الدستور العلماني في تركيا عبر تسلم حزب إسلامي لحكم البلاد، ثم ما تلا ذلك من سيطرة الشيوعية السوفييتية على أفغانستان، والحرب الباردة مع أميركا ودول الغرب والتي أدت إلى ظهور الحركات الجهادية الإسلامية الراديكالية بذريعة محاربة بلاد الكفار الشيوعية، وتبديل المقاومة الوطنية العربية بأخرى مذهبية وطائفية، ثم الربيع العربي ونهاياته المهولة والكارثية، وتزايد الأصولية الدينية في المجتمعات العربية، واستفراد العسكر بالسلطة رغم كل محاولات الشعوب للتغيير إلى نظم الحكم المدنية الديمقراطية، أو العودة إلى حكم الفرد والقضاء على الحياة المدنية الديمقراطية كما حدث في تونس، أو الانقلاب على المدنية كما يحدث هذه الأيام في السودان.

أين المنطق في كل ما يحدث في بلادنا؟ كل هذا الخراب والفوضى والدم والقتل والموت والتشريد والفقر والانهيارات الاقتصادية والخدمية، كل هذه المافيات الحاكمة وتحالفاتها مع رأس المال الذي يدعي التنوير من جهة ومع الأحزاب الدينية الرجعية من جهة أخرى، كل الاحتلالات الصريحة والمواربة التي حولت بلادنا إلى مختبرات للتجارب، كل النزعات المذهبية والدينية والقطرية والقومية الشوفينية التي ظهرت وطفت بشكل غير مسبوق، كل الانقسامات والاصطفافات بين الشعب الواحد وبين الشعوب ككل، كل تلك الأحلام بالعودة إلى ماضي هذه الأمة قبل أكثر من 1500 عام، واعتباره الصورة الأمثل للحياة بينما تمشي البشرية نحو مستقبل مخيف من فرط حداثته، كل الضحايا من شباب وشابات هذه الأمة الذين حلموا بمستقبل مغاير وانتهى بهم الأمر إما في المقابر أو في المعتقلات أو في المنافي أو دوامات اليأس حد الانتحار، كل هذا القاع الذي نهبط بسرعة مهولة إليه أين المنطق فيه وما أسبابه؟

هل يمكننا عزو الأسباب إلى الحالة التي تعيش فيها شعوبنا العربية منذ قرون طويلة؟ حالة التسليم واعتبار كل ما يحدث هو قضاء، وحالة التقديس حتى للتقاليد الموروثة والتي عرفت الأنظمة كيف تتلاعب عبرها بوعي الجماهير؟ ربما من المفيد هنا العودة إلى كتاب (سيكولوجية الجماهير) للكاتب والمؤرخ والطبيب الفرنسي (غوستاف لوبون) الذي شرح بدقة كيف تتم السيطرة والتلاعب بالجماهير لصالح التسلط، وكيف يتم تشكيل رأي عام جماهيري، وماذا ينتج عن هذه السيكولوجية في الحاضر والمستقبل، يقول مثلا: (إن الجماهير لا تتعطش إلى الحقيقة، تبتعد الجماهير عن الأدلة التي لا تناسب ذوقها مفضلة تأليه الخطأ، من يستطع أن يمدها بالأوهام سوف يتسيدها بسهولة، ومن يحاول تدمير أوهامها سوف يصبح ضحيتها)، وفي الحقيقة يصح هذا التشريح بشكل مهول على شعوبنا التي لا تستطيع الخروج من وهم التقديس لكل شيء، بدءا من الدين بكل ما يتعلق به حتى الأكاذيب والشعوذات، مرورا بالنظم الحاكمة وكل ما يتعلق بها حتى ادعاءاتها وفضائحها، وليس انتهاء بالثورات التي أصبحت أيضا مقدسة بكل أخطائها وافتراقاتها، بحيث يصبح كل من يقدم حقيقة ما عمّا هو مقدس جماهيري عدواً يستحق العقاب.

إن المسؤولية الكبرى في الجماهير تقع على عاتق النخب الفكرية والثقافية والسياسية، التي داهنت الأنظمة، أو تعالت على الجماهير، أو داهنت الشعبوية الجماهيرية

هل نتحمل، نحن الجماهير العربية إذاً المسؤولية عما يحدث لنا؟ من نافل القول إننا مسؤولون إلى حد ما عما يحدث، أو على الأقل لنقل إن المسؤولية الكبرى في الجماهير تقع على عاتق النخب الفكرية والثقافية والسياسية، التي داهنت الأنظمة، أو تعالت على الجماهير، أو داهنت الشعبوية الجماهيرية، أو باختصار تلك التي لم تستطع تبني خطاب أو خطة استراتيجية لتغيير وعي الجماهير الشعبية، لم تستطع التفوق لا على خطاب الأنظمة ولا على الخطاب الديني، لكن هل السبب هو عجزها الفكري فقط؟ في الحقيقة سوف نكون ظالمين إن قلنا هذا، فالأمر أشد تعقيدا من أن يتم اتهام هذه النخب بالعجز، إذ إن الأنظمة الحاكمة مع المؤسسة الدينية الرجعية (حليفة الأنظمة الاستبدادية في كل مكان وزمان) ما كانت لتتجرأ على ارتكاب كل هذا الخراب بحق مجتمعاتها لو لم تكن أساسا مستندة إلى دعم لوجستي مالي وإلى موافقة من  النظام العالمي حتى بمؤسساته الحقوقية (منظمة حقوق الإنسان ومنظمة العدالة الدولية والأمم المتحدة وغيرها، والتي اتضح أنها ليست سوى مؤسسات عاملة لدى النظم المافياوية الحاكمة للعالم وتخضع لإملاءاتها وتحالفاتها!).

هل يمكن أن يفهم أحد المنطق الذي يجعل هذه المنظمات والمؤسسات تصمت بالكامل عن كل الجرائم التي ترتكبها الأنظمة العربية والإسلامية وأنظمة العالم الثالث بحق شعوبها، وتغض الطرف عن الارتكابات اليومية التي تحدث حتى في الدول الهادئة والمستقرة سياسيا وأمنيا؟