التطبيع العربي مع الأسد أمر واقع..مقاومة الأسدية أمر واجب الوقوع

2019.01.13 | 00:01 دمشق

+A
حجم الخط
-A

واقعياً، علينا الانتظار كثيراً للتخلص من النظام السوري. رست موازين القوى والإرادات السياسية، إقليمياً ودولياً، على معادلة إبقاء الأسد وحاشيته حكّاماً لدولة، منهكة وممزقة وضعيفة وواقعة تحت احتلالات، هي سوريا اليوم. بالطبع، دفع السوريون وسيدفعون لفترة طويلة أثماناً هائلة لهذا الاستعصاء في التغيير. 

"الانفتاح" العربي، المحسوب والمقنن حتى الآن، وخطوات "التطبيع" الجارية مع الدولة السورية، تبدو مبرراتها المعلنة سخيفة وفاقدة للمعنى. فالقول بضرورة عودة العلاقات من أجل الحد من النفوذ الإيراني في بلاد الشام، هو قول يفتقد لأية صدقية، إن لم نقل إنه غباء، أو مجرد دجل سياسي. فمراجعة بسيطة لخيارات بشار الأسد منذ العام 2000 إلى اليوم، نستخلص منها مبدأ ثابتاً: التضحية بكل الشيء إلا الارتباط العضوي بالنظام الإيراني. تجربة الملك عبدالله عام 2009، وتجربة الرئيسين الفرنسيين جاك شيراك (2002) ونيكولا ساركوزي (2008)، أفضت إلى أن من يثق بالأسد يتذوق طعم الخديعة والكذب وألم الطعن في الظهر.

عودة العلاقات العربية مع النظام لن تحقق أي تغيير في سياسة الأسد ولا في سلوكه ولا في تحالفاته

لذا، عودة العلاقات العربية مع النظام لن تحقق أي تغيير في سياسة الأسد ولا في سلوكه ولا في تحالفاته. بل وأبعد من ذلك، الأنظمة العربية نفسها، المنتصرة بثوراتها المضادة، هي متناغمة جوهرياً مع طبيعة السلطة القائمة في سوريا، وإن تباينت الوجهة السياسية.

مع ذلك، وبالرغم من نزعتنا العاطفية، إعادة العلاقات هي حاجة واقعية، أشبه بالشر الذي لا بد منه. فالمصالح العربية في سوريا هائلة وضخمة. كذلك، مصالح السوريين في البلاد العربية واسعة وكبيرة وبالغة الحيوية. التشابك العميق بين السوريين والبلاد العربية لا يمكن الفكاك منه أو تجاهله. وهذه حقيقة اجتماعية واقتصادية وثقافية من الصعب حذفها من أجل مبدأ القطيعة والعداوة مع النظام.

إن مصالح ملايين العراقيين واللبنانيين والأردنيين والفلسطينيين تتصل على نحو وثيق ويومي بنوع من أنواع العلاقة مع سوريا. إن أهل مدينة طرابلس في شمال لبنان، مثلاً، يكنون عداوة دائمة للنظام السوري. مع ذلك، فهم الأكثر إلحاحاً في إعادة ترتيب علاقة لبنان مع سوريا من أجل تشغيل مرفأ المدينة، وورشها الصناعية، وتجاراتها. المدينة تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، ولا يمكن الطلب من هؤلاء التضحية بحاجاتهم وأرزاقهم من أجل مبدأ مقاطعة النظام. كل المزارعين اللبنانيين يعانون منذ العام 2011، من صعوبة تصريف منتجاتهم للسبب نفسه.

إن صلات القرابة وتداخل العائلات، عدا المصالح التجارية والمالية، تستوجب القدرة على التواصل مع سوريا كبلد وشعب ومؤسسات حكومية. حتى السوريون أنفسهم المقيمون خارج سوريا، هم بحاجة ملحة واضطرارية للتعامل مع "الدولة السورية" ببيروقراطيتها، كما بمؤسساتها المصرفية والقضائية. والأهم، أن المقيمين داخل سوريا، سيستفيدون بشكل أو بآخر من عودة العلاقات مع الدول العربية، لتحسين أوضاعهم السيئة. فكما نعرف من تجربة حصار العراق ومقاطعته، لم يؤثرا كثيراً بنظام صدام حسين، لكنهما أنزلا الضائقة والعوز بالشعب العراقي.

الإقرار العربي بالأمر الواقع هو لا شك انتصار دبلوماسي للأسد

بالتأكيد، نظام الأسد يستثمر هذا الواقع ويبتز الجميع به. والأكيد أيضاً أن "تطبيع" العلاقة معه يمنحه أوكسجين الحياة، ويمده بأسباب القوة والاستمرارية. فالإقرار العربي بالأمر الواقع هو لا شك انتصار ديبلوماسي للأسد. وبمعنى آخر، خسرت المعارضة السورية واحدة من أهم أوراقها.

ليست المعضلة في إعادة خطوط الطيران إلى مطار دمشق أو فتح سفارات أو إعادة فتح المعابر البرية، وتجديد الاتفاقيات التجارية، أو حتى عودة الاستثمار والمستثمرين والشركات.. إلخ، أو أن يستعيد النظام مقعده في الجامعة العربية. لكن المعضلة هي معنى العلاقات كما يترجمها النظام نفسه. 

المكسب الأول بالنسبة للأسد، بعد التطبيع العربي معه، أن لا اعتراض عربياً بعد اليوم على سياسة الإجرام المستمرة، في سحق أغلبية الشعب السوري وإخضاعه بالقوة. أما المكسب الثاني فيتجلى بعودته شريكاً في صياغة السياسة العربية والتأثير فيها كلاعب على قدم المساواة مع الزعماء الآخرين. وهذا سيصب ربحاً صافياً لحليفته إيران. 

إن أفضل مثال هنا هو ما جرى خلال الأيام القليلة، فبسبب تمنع الجامعة العربية عن دعوة الأسد إلى القمة الاقتصادية في بيروت، استطاع الأسد (الذي عاد مخيفاً لدى الأطراف السياسية اللبنانية، فعادت إلى تملقها له)، أن يحرك "الشيعية السياسية" لتخريب القمة وربما التسبب بإلغائها.

معنى عودة العلاقات بالنسبة للأسد، ليست "ديبلوماسية" وأصولاً وأعرافاً وتقاليد ولياقات بين دول مستقلة وسيدة، بل هي منازعة وإرهاب وابتزاز وشبكات سرية وعقد أحلاف مع جماعات أهلية داخل الدول الأخرى، ولا مانع من تسليحها وتحريضها وإخراجها من الإجماعات الوطنية، فيسوغ لنفسه أن يمد يده إلى أحشاء الداخل الفلسطيني ويحاول الاستحواذ على تمثيل مصالح الفلسطينيين وسياستهم، والأمر عينه وعلى نحو أشد سيعود إلى لبنان لا طلباً لصداقة وتعاون مع الدولة، بل طمعاً في الوصاية عليه مجدداً واستتباعه وقيامه حكَماً بين جماعاته وطوائفه، التي يألبها على بعضها البعض. وهو الضالع أيضاً بسياسة "محورية" مع إيران في العراق، حيث على النسق اللبناني يتم تدبير الفوضى والضعف والعصبيات المذهبية بما يديم الهيمنة والاستغلال والنفوذ. أما الأردن والسعودية فتجاربهما مع هذا النظام كانت أشبه بالحرب الخفية. 

القبول بالأسد بلا شرط، ولو بتغيير بسيط في سلوكه وفي "أيديولوجيته"، يعني إدخال جندي ولي الفقيه إلى مطبخ السياسة العربية

القبول بالأسد بلا شرط، ولو بتغيير بسيط في سلوكه وفي "أيديولوجيته"، يعني إدخال جندي ولي الفقيه إلى مطبخ السياسة العربية ليدس السم فيه. فهو كما والده، عبارة عن كتلة من أحقاد، ويحمل رغبة عنيفة بالثأر وطموح جامح كي يهين الدول التي خاصمته في السنوات الماضية. لم يتورع عن تسريب الكثير من التصريحات المفعمة بالضغينة والتهديد لكثير من السياسيين الذين خاصموه.

لا مهرب على ما يبدو من إعادة العلاقات مع سوريا، بغض النظر عن مستوى التطبيع أو "المصالحات" التي ستقوم بها الدول العربية مع الأسد. لكن، هل سيلجأ العرب إلى مقايضة "إعمار" سوريا مقابل تغيير سياسة النظام؟ هل هو أصلاً على قدر من الاستقلالية وحرية الإرادة تجاه إيران؟ نشك كثيراً بذلك.

إزاء هكذا حال عربية مزرية، وواقع سوري مرير، لا مهرب من ابتكار سياسة "مقاومة الأسد". بندها الأول هو الامتناع عن منحه الشرعية. وبندها الثاني الضروري هو الخروج من الحرب، تمهيداً لإعادة الصلة بالمجتمع السوري كله، ومراجعة تجربة السنوات الثماني، في أوسع حوار مع كل أطياف السوريين، بحثاً عن برنامج سياسي اعتراضي ومعارض هدفه تحرير سوريا من هذه السلطة. 

مقاومة الأسدية هي المعبر الإجباري لـ"عودة سوريا" وذهاب الاستبداد.