حزب الله منتصراً على لبنان.. وفرنسا

2020.09.20 | 00:06 دمشق

aoun_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

قدم الرئيس إيمانويل ماكرون، بمعاونة من كبار مستشاريه وقادة المخابرات والوزراء، برنامجاً سياسياً – اقتصادياً إنقاذياً للدولة اللبنانية. بل إنه وضع بالتفاصيل جدول أعمال ما سماه هو "حكومة مهمة" يفترض تأليفها في غضون 15 يوماً من تاريخ مغادرته بيروت. حتى إنه أيضاً، عمل شخصياً على تسمية رئيس الحكومة المكلف، إضافة إلى الصفات المطلوبة بالوزراء الجدد: مستقلّين واختصاصيين، لا صلة لهم بالأحزاب ولا هم من الطبقة السياسية. ويقال إنه وطاقمه تدخّلوا لانتقاء أسماء أولئك الوزراء.

وتمهيداً لذلك، كان ماكرون في بيروت قد جمع عصبة الحكم، رؤساء وقادة أحزاب يمثلون الكتل النيابية، ومن بينهم محمد رعد رئيس كتلة حزب الله في البرلمان، وفرض عليهم تعهداً صريحاً بالرضوخ لكل بنود المبادرة الفرنسية، ملوّحاً لهم أن البديل هو المزيد من الانهيارات والفوضى.. والعزلة والعقوبات.

بدا الأمر من جهة أولى، أن فرنسا أنجدت هذه الطبقة السياسية، بما يعاكس رغبة شعبية للتخلص منها وابتداء تحول في النظام. ومن جهة ثانية، ظهرت فرنسا وكأنها حبل نجاة لحزب الله الذي يتحمل مسؤولية ما آل إليه لبنان على امتداد 15 عاماً، على الأقل. ومن جهة ثالثة، أتت المبادرة كفرصة أخيرة لإنقاذ اللبنانيين من تداعيات الكوارث التي أصابتهم ومن الانهيار الاقتصادي.. ومعاونتهم على العصبة الحاكمة بفرض الإصلاحات الإدارية والمالية والسياسية.

وعلى هذا، يمكن القول أن إجماعاً لبنانياً تحصّل لخريطة الطريق الفرنسية. ثم إن الدول المؤثرة كالسعودية والولايات المتحدة، ورغم يأسهما من الحال اللبنانية وقناعتهم أن البلد مخطوف من إيران عبر حزب الله، ولا سبيل لأي إصلاح أو إنقاذ إلا بإعادة التوازن السياسي عبر إضعاف حزب الله وتجريده من قوته العسكرية، فإنهما أفسحا بالمجال للمبادرة الفرنسية لعلها تحقق اختراقاً في الاستعصاء اللبناني. وقد بدت الديبلوماسية المصرية بمواكبتها اللصيقة لهذه المبادرة تعبيراً عن عدم الاعتراض السعودي – الأميركي مبدئياً، رغم توقعهما المسبق بفشل المسعى الفرنسي.

ما حدث تالياً، بعد مغادرة ماكرون بيروت، أن حزب الله حصّل مكاسب كبيرة، أهمها الحوار المباشر بين الرئيس الفرنسي والحزب، كاعتراف قوي بـ"شرعيته" السياسية، خصوصاً وأن ماكرون ردد أكثر من مرة أن حزب الله منتخب ديموقراطياً من شريحة كبيرة من الشعب اللبناني. كذلك، كان المكسب الأهم، أن الفرنسيين حيّدوا مسألة سلاحه وأخرجوه من النقاش الوطني ومن لائحة "الأزمات" التي يتوجب مواجهتها وعلاجها.

هكذا، شعر الحزب بالتحرر من الضغط. ونال اعترافاً صلباً بهيمنته كأمر واقع لا يمكن تجاوزه. ولذا، وكعادته في المناورة والمفاوضة وقت الضيق، ثم الانقلاب على الواقع أو التفاهمات أو الاتفاقات حين تأتيه الفرصة، ما إن غادر ماكرون لبنان حتى عاد الحزب إلى ما كان عليه وإلى أجندته في السيطرة على القرار السياسي وعلى آليات إنتاج السلطة.

لذا، وقف الحليف الأول للحزب وشريكه في التمثيل الشيعي، رئيس حركة "أمل" نبيه برّي، مطالباً الرئيس المكلف تشكيل الحكومة، مصطفى أديب، بحجز وزارة المالية لشيعي يسميه هو وحزب الله. ولم يكتفِ "الثنائي الشيعي" بهذا فقط، بل واشترط أن يكون هو من يسمي ويختار كل الوزراء الشيعة. ولبنانياً، يعني ذلك العودة إلى الأسلوب نفسه المكرس منذ 15 عاماً على نحو غير دستوري بالمطلق، والذي ينيط اختيار وزراء كل طائفة بالحزب المهيمن عليها.. أي وعلى ضد من نص المبادرة الفرنسية وروحها، تعود العصبة الحاكمة وتجدد نفسها وتشكل الحكومة التي تريدها، تماماً كما حدث مع الحكومة المستقيلة التي ترأسها حسان دياب وعاشت ستة أشهر وحسب.

بمعنى أوضح، ولأن كل الخطة الانقاذية التي رسمها الفرنسيون، تقوم على إصلاحات مالية واقتصادية بنيوية وشاملة، وتتصل بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي وبالمساعدات والقروض

أن يطلب "الثنائي الشيعي" حصرية الحق بهذه الحقيبة واختيار وزيرها، يعني الإطاحة التامة بالمبادرة الفرنسية والانقلاب عليها

التي أقرها مؤتمر "سيدر" قبل سنوات (حوالي 11 مليار دولار)، وبالتحقيق الجنائي المالي الذي سيطول مجمل مؤسسات الدولة وعلى رأسها المصرف المركزي، فإن منصب وزير المالية يفترض أن يكون هو "المفتاح والباب" لكل جدول أعمال الحكومة وأدائها. إنه "الوزير الملك".

أن يطلب "الثنائي الشيعي" حصرية الحق بهذه الحقيبة واختيار وزيرها، يعني الإطاحة التامة بالمبادرة الفرنسية والانقلاب عليها.

الصفعة الأولى التي تلقاها رئيس دولة كبرى من حزب الله، كانت بكسر موعد إعلان ولادة الحكومة. انقضت مهلة الـ15 يوماً التي حددها ماكرون، ولم تولد حكومة مصطفى أديب. والصفعة الثانية كانت حين أعلن الثنائي الشيعي رفضه لمبدأ المداورة بالحقائب الوزارية بين الطوائف. الصفعة الثالثة أتت حين كسر حزب الله وحركة أمل شرط تأليف الحكومة من مستقلّين واختصاصيين. الصفعة الرابعة أتت حين انتهت المهلة الزمنية الثانية ولم تتشكل الحكومة العتيدة.

لكن الصفعة المؤذية والمهينة هي تلك التي تلقاها اللبنانيون من حزب الله: طالبوا بما تشاؤون.. لكن الأمر لي ولن يكون إلا ما أشاء. ففائض القوة والاستعداد لممارسة العنف يمنحان حزب الله القدرة على أخذ لبنان حيثما يريد ويشتهي.

وما أصاب اللبنانيين يصيب الفرنسيين اليوم. فلا هم قادرون بعد الآن على تنفيذ خطتهم ومبادرتهم وفق النسخة الأصلية، ولا هم قادرون على إعلان خيبتهم وهزيمتهم والانسحاب من الساحة اللبنانية خالي الوفاض، هم الذين يفكرون ويعملون على نطاق أوسع يتصل بصراع النفوذ في شرق المتوسط، وبالتالي، قد يضطرون إلى "مساكنة" ومعايشة حزب الله ومسايرته. ولا هم مستعدون لـ"مواجهة" فعلية مع حزب الله فلن تنتج سوى انهيار أمني وعنف وفوضى يبرع بها حزب الله.

 ليس مهماً الآن متى تتشكل الحكومة. فهي بالتأكيد لن تكون "حكومة مهمة" وإنقاذ. وعلى هذا المنوال تبددت آمال اللبنانيين ولم يعد أمامهم سوى مضغ اليأس وابتلاع مهانة فقدانهم حق تقرير المصير.