حرائق لبنان وسوريا.. أو "صناعة" الكوارث

2020.10.11 | 00:00 دمشق

656422.jpg
+A
حجم الخط
-A

يقول أحد قادة الإطفاء في لبنان إنه لا حريق من دون شرارة. وغالباً، البشر هم من  يصنع الشرارة. وتفيد إحصائيات وتحقيقات أن أكثر من تسعين في المئة من الحرائق التي تحدث في الأحراج هي مفتعلة.

في السنوات السابقة، شهدت سوريا حرب حرائق المحاصيل على نطاق واسع، خصوصاً في حقول القمح. وهي حرائق لم تكن "طبيعية" إطلاقاً. وكانت دلائل كثيرة تُثبت أنها سياسة متعمدة للتنكيل بالسكان أو تهجيرهم أو تجويعهم أو حرمانهم من الموارد المالية. كانت امتداداً لحرب وحشية ميزت خصوصاً أساليب النظام الأسدي في العقاب الجماعي، ومارسته أيضاً جماعات مسلحة متعددة.

ما يحدث في أحراج لبنان وسوريا من حرائق هائلة في مختلف المناطق، متوزعة على مساحات كبيرة، هي من نوع مختلف. أي أنها لا تندرج في خانة "الأعمال الحربية". إنها أسوأ من ذلك. هي نتاج سلسلة من الفشل والانهيار وتحلل المجتمعات وغياب الانتظام العام. هي تتويج لسلسلة من الكوارث السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تتحول إلى فوضى عارمة في بلاد منهكة وخربة لا شيء فيها سوى الفساد وأخلاقه.

غالباً ما يأتي "موسم الحرائق" (الطبيعية) في آخر الصيف ومبتدأ الخريف، خصوصاً إن لم يكن "أيلول طرفه مبلولاً"، على ما يقول العامة عن قطرات المطر الأولى. فانحباس المطر وتأخره يجعل اليباس قابلاً للاشتعال. وعلى الأرجح، تشتغل "حنكة" القرويين في التحايل على قوانين الأحراج، إن بشروط "التشحيل" أو استثمار الأراضي البور أو التحطيب والتفحيم، في هذا الموسم. وتحت غطاء "طبيعية" الحرائق في هذا الوقت من السنة، يبدأ صنع الشرارات هنا وهناك، تدميراً للأحراج، على نحو يكسبهم أراضي زراعية جديدة على تخوم بلداتهم وفي الأراضي المشاع، كما يمنحهم الحق بتحطيب مساحات جديدة وصنع الفحم.. عدا عن اكتساب مساحات غير حرجية ميتة للاستثمار العقاري فيما بعد.

هذا السلوك المدمر للطبيعة، يصبح أكثر عمومية عندما تضعف "الدولة" (لا السلطة). أي عندما يشعر الناس أنهم بحل من القوانين ومن الانضباط تحت سقف الصالح العام. وإذا كان ضعف الدولة مقروناً بسلطة فاسدة وتعمم الفساد كخيار وحيد لتحقيق المصلحة والمنفعة، يخرج شطر كبير من السكان على أي قانون لينضموا إلى هذا التيار الجارف في إدارة كل شيء وتدبير المعيشة والربح بوسائل فاسدة وملتوية.. وإجرامية.

بمعنى أوضح، إن الإفقار المستمر للناس، وغياب التنمية، وتخلف القطاع الزراعي ومردوده الضعيف أصلاً والأزمات الاقتصادية المتلاحقة، وقلة الموارد وضآلة الدعم الحكومي، والافتقاد إلى سياسات تطوير المجتمعات المحلية، كل هذا يجعل سكان الأرياف والجبال خصوصاً يلجؤون إلى إجراءات متطرفة لتأمين شروط البقاء. فهم الذين كانوا مثلاً يعتمدون على المازوت للتدفئة (ولتشغيل مولدات الكهرباء والجرارات الزراعية ومضخات المياه.. إلخ)، لم يعد بإمكانهم شراؤه. وهذا ما يدفعهم على الأقل إلى البحث عن الحطب والفحم ولو عبر حرق الغابات وتدمير بيئتهم.

وضعف مردود حقولهم وبساتينهم، مقابل الزيادة السكانية، أيضاً هما سبب في قضم المساحات الحرجية بطرق فظة وسيئة.. أي عبر حرقها تمهيداً للاستيلاء عليها.

والأهم من ذلك، وضمن السلسلة التفاعلية والسببية لتوالي الكوارث الذي يبدأ من فساد السلطة وصولاً إلى تحلل المجتمع وخراب الطبيعة، أن أجهزة الإطفاء نفسها مصابة بالترهل وقلة الإمكانيات وضآلة مواردها البشرية والمادية، ما يحيل الحرائق إلى كوارث واسعة النطاق. والأسوأ أن الأجهزة الرقابية أو الأمنية أو البلدية غير مؤهلة للتحقيق أو ملاحقة مفتعلي الحرائق. بل غالباً ما يكون مزيج التواطؤ والفساد والإهمال هو الوقود لتمدد الحرائق وتكرارها من غير رقيب أو حسيب.

المشاهد الآتية من جبال لبنان وسوريا وغاباتهما كابوسية ومروعة. فلا يكفي الدمار ولا البؤس ولا القسوة والعنف ولا المظالم اليومية ولا تمزق البلاد على الضغائن الطائفية ولا انهيار الدولة الوطنية.. بل حتى الطبيعة نفسها تترمد. وكأن لا شيء سيبقى للحياة. فقط موت متنقل وعمومي يسيطر على كل شيء.

ليس مهماً مثلاً إن كان انفجار مرفأ بيروت ناجم عن إهمال أو عن عمل متعمد أو إن كانت حرائق عام 2019 طبيعية أم مفتعلة، ولا حرائق حقول القمح إن كان داعش قد فعلها أو جيش الأسد.. وليس مهماً من السبب بانفجار خزان سري لأحد تجار البنزين الجشعين أودى بحياة سكان المبنى وسط حي شعبي. كما لا يقدم ولا يؤخر

الطبقة الحاكمة، النظام، في سوريا كما في لبنان، تتحمل المسؤولية المباشرة والكاملة عن هذا الخراب والبؤس

إن كانت هذه الحرائق في خريف 2020 بفعل الشمس أو بيد أرعن.. فهذا كله مسلسل لن يتوقف، وحوادثه المشابهة باتت يومية في بلادنا لا لأن "لعنة" أصابتها. بل لأن البلاد ممنوعة أن تكون "دولة" وناسها "مواطنين". فاقتصاد الأمونيوم، وسمسرة العقارات، وتهريب النفط، وصناعة الكابتاغون، وتبييض الأموال، وبيزنس أمراء الحرب.. لا ينتعش إلا هكذا.

وعلى هذا، يمكن القول إن الطبقة الحاكمة، النظام، في سوريا كما في لبنان، تتحمل المسؤولية المباشرة والكاملة عن هذا الخراب والبؤس.

طبقة من طينة رامي مخلوف أو أسماء الأخرس أو بشار الأسد أو أي سياسي لبناني، هم نوع من "رجال الأعمال" الذين لا يعرفون ربحاً إلا بصفقات إجرامية وفاسدة ودموية. بل إن "أعمالهم" لا تقوم إلا تطاولاً على الدولة وعلى القانون وعلى حساب الناس وكراماتهم وحقوقهم. "بيزنس" سرقة الحقوق والإفساد والنهب. بيزنس مدجج بعصابات –ميليشيات- جيوش- مرتزقة تحترف القتل والمجازر والانفجارات والحرائق.

أن يكون هؤلاء "السلطة"، فهذا ما يؤسس الـchain reaction (التفاعل التسلسلي) لكل المصائب، من الحروب الأهلية إلى حرائق الغابات إلى موت طفل لم يجد الدواء.