icon
التغطية الحية

يوم قرر حافظ الأسد أن يموت.. قصص تُروى لأول مرة من سوريا ولبنان

2023.06.10 | 19:51 دمشق

جثمان حافظ الأسد على عربة مدفع عسكري في دمشق (التاريخ السوري المعاصر)
جثمان حافظ الأسد على عربة مدفع عسكري في دمشق (التاريخ السوري المعاصر)
إسطنبول - ريان أبو ليلى
+A
حجم الخط
-A

في العاشر من حزيران عام 2000، قطع التلفزيون الإسرائيلي بث برامجه العادية بشكل مفاجئ ليذيع نبأ وفاة حافظ الأسد، ثم تبعه بيان صادر عن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك‏، أكد فيه "تفهّم الحكومة الإسرائيلية لمشاعر الحزن التي تنتاب الشعب السوري لوفاة الرئيس الراحل حافظ الأسد". وفي الطرف الآخر من العالم، أصدر البيت الأبيض بياناً قال فيه إن الرئيس الأميركي بيل كلينتون يشعر "بالحزن العميق" لرحيل الأسد. ثم توالت رسائل التعزية العربية والدولية للشعب السوري برحيل "قائده". ومن بعيد، من وجهة نظر الفضائيين على سبيل المثال، قد يبدو لوهلة وكأن السوريين عائلة واحدة كبيرة يجلس على رأس مائدتها "الأب المؤسس"، الذي يحب جميع أفراد العائلة مناداته باسم الدلع ومن دون تكلف بـ"القائد الخالد".

من مسافة أبعد قليلاً من تلك التي قد يجلس فيها الفضائيون ليتلصصوا على تاريخنا المعاصر، أي من داخل سوريا ولبنان اللتين كان ينسحب منهما ظل "القائد" لأول مرة منذ نحو ثلاثين عاماً، كان الناس ينسحبون سريعاً إلى منازلهم، مخلين الشوارع لأيتام "القائد" الحزانى الذين شيعوه في الرابع عشر من حزيران، ناقلين جثمانه على متن عربة مدفعية من قصر الشعب إلى مطار المزة، ومن هناك إلى مطار "باسل الأسد" (حميميم) في اللاذقية، حيث صُلي عليه في مسجد "ناعسة" في القرداحة. ولا بد أن الأسد كان يشعر حقاً بالألفة في طريقه إلى مثواه الأخير، إذ يبدو التنقل بين أسماء شوارع البلاد ومحطات التشييع وكأنه يقلّب صفحات في دفتر عائلته.

في هذا التقرير ينشر موقع تلفزيون سوريا قصصاً تُروى لأول مرة، عمّا جرى داخل بيوت بعض السوريين واللبنانيين في ذلك اليوم قبل ثلاث وعشرين سنة، من ريف حماة ودمشق وريفها حتى بيروت، ويُلقي نظرة أخيرة على الحدث من وجهة نظر أطفال كانوا يلعبون كرة القدم في الطريق حين فرقهم حافظ الأسد لآخر مرة.

"عدو شقيقه والمسلمين"

نادت أم إبراهيم على ولديها أسامة (16 سنة) ووفاء (15 سنة) بإصرار، مقاطعة متعة الطفلين باللعب مع أبناء الجيران في مدخل أحد الأبنية في مدينة جرمانا على أطراف العاصمة دمشق، وسرعان ما تحول تأففهما إلى حالة من القلق الوجودي وراء الأبواب المغلقة حين علموا أن حافظ الأسد قد مات، أو ربما التقطا المشاعر بالعدوى من الوالدين.

هبط صمت تام على شوارع المدينة خلال دقائق قليلة، لا يُعكره سوى أصوات إغلاق المحال التجارية، والخطوات المستعجلة في الحارات لأشخاص يبحثون عن أقصر طريق نحو المنزل.

"بس ما يجي رفعت الأسد" سمعت وفاء تعليق والدها على الخبر الذي نقلته قناة الجزيرة، واستعادت كل القصص عن الرجل "عدو شقيقه والمسلمين"، فأصابها الرعاف.

"كنت سمعانة كتير قصص عن يلي عمله رفعت بالنساء المسلمات، وأنو كان يشلحون حجاباتن بالطرقات ويعمل شغلات مو منيحة، وارتعبت من فكرة أنو ممكن يصير فينا هيك، وما لقيت الدم غير عم ينزل من أنفي"، تقول وفاء التي باتت أمّاً بدورها وفي الثامنة والثلاثين من عمرها.

تقول القصة في تلك الفترة إن حافظ الأسد كان "حامي المسلمين". يحميهم مِمَّنْ؟ يحميهم من بطش شقيقه المنفي خارج البلاد والطامع بلا هوادة بالسلطة. "كان بدنا سنين بعد لنفهم شو صار بحماة وغيرها، الحكي بهي المواضيع كان ممنوع حتى داخل البيوت". توضح وفاء.

كان والد وفاء يخشى من مذبحة نتيجة صراع رجال السلطة على الحكم، "أنا هب قلبي بس شفت الخبر، قلت أجت ساعة الصفر، ورح نروح بين الرجلين"، يقول أبو إبراهيم.

وتضيف زوجته "كنّا خايفين كتير على مصيرنا، خايفين يكون فاروق الشرع عمل انقلاب، أو عبد الحليم خدام، لأن حافظ الأسد ما كان صرله شي مصفي رئيس الوزراء محمود الزعبي، وما منعرف شو رح تكون ردة فعل المؤيدين لحافظ إذا هي الشخصيات انقلبت، ونحن بس ما كان بدنا يعلقوا يلي فوق ببعض".

لم يسمع أي فرد من هذه العائلة ببشار الأسد قبل ذلك اليوم، حين بدأت وسائل الإعلام السورية بتهيئة السوريين لحكم الوريث، "الدكتور ذو العيون الزرقاء يلي دارس برا، كانوا يعيدوا هالحكي طول الوقت على التلفزيون"، يقول أسامة.

في تلك الليلة نام أفراد العائلة بعد "الاطمئنان" أن رفعت الأسد لن يعود، وأن صراعاً على السلطة لن ينشب، لكنهم جمعوا وثائقهم الرسمية في حقيبة واحدة استعداداً لأي طارئ، وبقي رب الأسرة مستيقظاً حتى صباح اليوم التالي.

استمرت مظاهر الحداد لأربعين يوماً في البلاد، وحتى الأخبار المتعلقة بموت حافظ الأسد، كان يجب سماعها بصوت خافت، "طقت روحنا، بس ما منسترجي نخالف، شو بتعمل هالناس منعمل متلون"، يقول أبو إبراهيم.

وجه وحيد ضاحك

"ما كان صرلنا كم يوم جايبين تلفزيون "سيرونيكس" حقه هديك الحسبة قام مات الرئيس"، يقول إلياس أحد سكان منطقة الدويلعة في دمشق، كان حينها ابن ثماني سنوات فقط، لكن صورة اليوم الذي انتهى فيه عهد حفظ الأسد بشريط خبر عاجل ما زالت مطبوعة في ذاكرته.

في المنزل طغى وجه الوالدة المرعوب على جميع الصور، ومن الشارع سمع صوت صرخة، ومن بين التمتمات التي تبادلها أفراد العائلة الأكبر سناً تردد على مسامعه عبارة واحدة بوضوح "الله يستر".

بعد ساعات قليلة أعلن النظام السوري الحداد العام، ومن بين الوجوه المذعورة ميّز ابتسامة ضاحكة وحيدة لوجه شقيقه الأكبر.

"شو في؟" سأله.

"والله مو فهمان شو عم يصير، بس أجلوا الامتحانات"، أجاب شقيقه الضاحك، طالب البكالوريا الذي نجا بمعجزة ذلك العام.

مساء اليوم التالي، أُغلقت جميع محال الدويلعة تقريباً، وامتلأت الشوارع بصور "القائد الخالد"، وظهر جميع الناس باللباس الأسود، وجالت في حارة عائلة الياس سيارة "هونداي" ذهاباً إياباً للاستعراض فقط، تحمل أشخاصاً يصرخون رافعين صوراً لحافظ وأبنائه، وتعرف إلياس على بشار الأسد لأول مرة من صورة كُتب عليها "خير خلف لخير سلف".

"المهم، بعد بشي أسبوع من موت "حامي المسيحية" اشترينا جهاز بيلقط قنوات عربية وأجنبية، لأن القنوات السورية فتحت مأتماً لـ 24 ساعة، ولأن كان في بطولة كرة قدم أوروبية، أخي الكبير كان مهووس بكرة القدم، وبتعرف.. ما في امتحانات"، يقول إلياس ساخراً.

"زلغوطة عالنايص"

لم تصدق رولا ابنة الأحد عشر عاماً ما رأته للوهلة الأولى على شاشة التلفاز ذي الهوائي (الأنطين)، حين انقطع بث أحد البرامج الترفيهية التي تتابعها على القناة السورية الأولى، وبحركتين أو ثلاث مشّطت البيت الكائن في إحدى أحياء السلمية بريف حماة، بحثاً عن والدتها.

"حزري مين مات؟"

"مين؟"

"حافظ الأسد"

جحظت عينا الوالدة، ثم غطّت فمها بيدها اليمنى، وأطلقت ندهة خافتة للغاية "لولولولوليش"، وكأنها لا تريد لهذه الزغرودة أن تفلت من بين أصابعها، أو كما سمتها رولا "زلغوطة على النايص". 

لا تخفي رولا دهشتها من ردة فعل والدتها، المتعارضة تماماً مع ما كان يصلها من بكاء أعضاء مجلس الشعب عبر التلفزيون، وببطء تحاول الطفلة استيعاب موجة التفاؤل التي انتابت العائلة لأن شخصاً ما في هذا العالم قد مات. 

لكن سرعان ما بدأ القلق يتسلل إلى فرحة العائلة خلال اليوم، والآن من سيحكم؟ هكذا سمعوا لأول مرة باسم بشار الأسد، ابن الرئيس "الفهمان" لأنه "درس برا".

خلال تلك الفترة تلقت رولا دعوة مع والدتها لحضور حفل خطوبة إحدى قريباتها، جلسوا جميعاً على سطح أحد البيوت، متبسمين بصمت من دون أي مظهر احتفالي، وحين سألت الطفلة عن السبب الذي يجعل الجميع صامتين بهذه الطريقة المريبة، قالوا: "ما فينا نطلع صوت لتخلص أربعينية الرئيس".

تتذكر رولا، كيف كان على الناس أن يوازنوا على مدار أربعين يوماً تالياً لموت حافظ الأسد، بين أجواء "الأربعينية" الحزينة، التي يُحظر فيها إبداء أي مظهر من مظاهر الفرح، بما في ذلك ارتداء الملابس الملونة، وبين مسيرات "المبايعة" لبشار الأسد التي أرغموا الجميع عليها، بما في ذلك الأطفال ومن بينهم رولا نفسها، حيث رأت جموع غفيرة من الناس في ساحة سلمية قرب السراية.

"فرحة العمر مرة وطلعلنا فيها حافظ الأسد"

"عرفنا أنو حافظ الأسد مات بأسوأ طريقة ممكن تعرف فيها عيلة لبنانية هيك خبر"، يقول خالد أحد سكان كورنيش المزرعة في بيروت، "كان عرس أختي، لاقينا العسكر بسلاحون فوق راسنا بالصالة".

دخل مسلحون من قوات النظام إلى صالة الأفراح التي بدأت فيها الاحتفالات للتو، وطلبوا في البداية أن يُلغى الزفاف برمته لأن "القائد مات". تدخل رجال كبار في السن وعمّال سوريون يُديرون الصالة، بينما بدأ بعض المعازيم بالمغادرة على الفور.

أخبر أحد العمّال السوريين الضابط المسؤول أن الصالة محجوزة أساساً لأيام قادمة من أجل حفلات زفاف مشابهة، فكان جوابه "لأ. هدول رح يلتغوا. لأن الصالة رح تسكر"، أجاب الضابط مستبصراً المستقبل.

قبل المسلحون في النهاية بالسماح للمحتفلين بالبقاء في الصالة لأقل من نصف ساعة، وبتدخل وساطات توصلوا لاتفاق جديد؛ تُغلقون أبواب الصالة بشكلٍ مُحكم، تُخفضون أصوات الأغاني إلى أدنى حد، ممنوع الزغردة، الألعاب النارية ممنوعة، كل الزينة على السيارات ومدخل الصالة يجب أن تُزال على الفور، زفّة العروس عند الخروج من الصالة ممنوعة، الزمامير ممنوعة، وإذا تجاوزت أصواتكم باب الصالة ستتحملون المسؤولية.

لم يستمر الزفاف لأكثر من ساعة ونصف، "الكل قاعد على أعصابه، المعازيم والعريس والعروس على أعصابن"، يوضح خالد.

يؤكد الشاب اللبناني الذي لم يكن يتجاوز 18 عاماً من عمره عند وفاة حافظ الأسد، أن العديد من الأعراس أُلغيت في بيروت تلك الفترة، "هي فرحة هالعمر مرة ما معقول يطلعلك فيها حافظ الأسد"، يقول ضاحكاً.

واستمرت مظاهر الحداد في بيروت لنحو أسبوعين، ألغت خلالها أشهر مناطق السهر مثل الروشة والحمرا فعّالياتها، وكان على اللبنانيين خلال هذه المدة العودة باكراً إلى منازلهم في المساء، والامتناع عن تشغيل الأغاني بأصوات مرتفعة خاصة في السيارات، وتجنب الضحك المبالغ به في الشوارع وبشكل خاص بالقرب من حواجز قوات النظام السوري.

"ليش الرئيس بموت؟"

"ما لحقوا يمسكوني، سمعت الخبر وركضت عالشارع فوراً، وقفت قدام رفقاتي يلي عم يلعبوا طابة بدوني وقلتلون: مات حافظ الأسد". يقول محمد، الذي اعتقد وهو بعمر السبع سنوات، أن هذا الخبر قد يصلح لاستعادة مكانته بين أولاد الحارة الذين استبعدوه من نشاطاتهم لخلافات لم يعد يذكرها الآن بعد أكثر من عقدين من الزمن.

ركض الأطفال بكل الاتجاهات، واحد منهم فقط عاد بسرعة كبيرة ليأخذ الكرة التي تُركت لأول مرة وحدها تدور حول نفسها من دون هدف، ثم انطلق مسرعاً إلى بيته. 

"كنت سعيد أنو خليتون يتفرقوا، حتى لو ما صالحوني، على الأقل ما يلعبوا بدوني"، يوضح محمد الذي سرعان ما خسر سعادته هذه، حين رأى صديقه أيهم يندفع إلى حيث تجلس والدته مع مجموعة من النساء أمام باب البيت في إحدى أزقة جرمانا، ويصرخ "مات حافظ الأسد". بصفعة واحدة ارتمى أيهم أرضاً. "خراس ولك" صرخت والدته.

"من وين جبت هالحكي؟"

"من محمد". 

هذه النهاية، قال محمد لنفسه، "أنا قليل الأدب يلي بقول أنو حافظ الأسد مات، مستحيل حدا يحكي معي بعد اليوم".

نادى صاحب محل بقالة لمحمد، كان قد سمع ما نقله الطفل لأصدقائه، انحنى الرجل العملاق على الطفل الذي أخذ يشعر بأن وجوده في هذا العالم وفي هذه الحارة بات أشد تضاؤلاً ولا يُطاق، وسأله:

"من وين جبت هالحكي عن حافظ الأسد؟".

"من التلفزيون".

لحظة صمت. يدّعي محمد أنه رأى البقّال خلالها يبلع ريقه ممتقعاً، ثم أشار الرجل للطفل برأسه "روح عالبيت فوراً". 

بثّ التلفزيون السوري تصويراً جوياً لنقل جثمان حافظ الأسد من دمشق إلى اللاذقية، كما يذكر محمد، وفي السماء وضعوا صورة حافظ الأسد باستخدام أدوات المونتاج.

"رح يضل معن بالسما؟ قصدي أنو هن بالطيارة وهو بالسما؟" سأل محمد والده. 

"أي عم يراقبنا كلنا". ردّ والده ضاحكاً.

على مدار أيام بعدها، كان على والدة محمد أن تُصلح نتائج هذه المزحة، في محاولة لإقناع ابنها أن الرئيس يموت مثل كل البشر.

"الرئيس بينعس؟"

"أي بينعس وبنام"

"بجوع؟"

"بجوع وبياكل متلنا"

"بفوت عالتواليت؟"

تضحك والدته، "أي بفوت عالتواليت".

وهكذا نشأ اعتقاد آخر لدى محمد بعد نهاية مراسم تشييع حافظ الأسد، "فكرت أنو الرئاسة بالدور، وكنت ناطر دور أبي"، يقول الرجل الذي بات في الثلاثين من عمره، ومتأكد تماماً أن والده لن يصير رئيساً، ولو كان أقوى من أولاد الحارة جميعهم.