نظام الأسد مافيا ذات حصانة دولية

2023.09.15 | 05:55 دمشق

نظام الأسد مافيا ذات حصانة دولية
+A
حجم الخط
-A

ضمن سلسلة من الإجراءات التي يتخذها النظام السوري في الفترة الأخيرة من تعديل قوانين وإحداث تشريعات جديدة، فوجئ السوريون مؤخراً بمرسوم ينهي العمل بقانون المحاكم الميدانية العسكرية _الذي كان معمولاً به منذ عام 1968 وكان الغرض منه محاكمة الجنود الفارين من الخدمة العسكرية_ على أن تُحال القضايا المرفوعة أمام محاكم الميدان "بحالتها الحاضرة إلى القضاء العسكري لإجراء الملاحقة فيها وفق أحكام قانون العقوبات وأصول المحاكمات العسكرية" من تاريخه.

إلى حد ذلك يبدو الأمر منطقياً لكن قراءة ذلك للسوريين ومن في حكمهم ممن عايشوا حقبة الأسد منذ تسلم البعث السلطة قد تختلف، فهم يعرفون أن هذا المرسوم كان مبرراً قانونياً في قتل كثير من السوريين الذين عملوا في السلك العسكري أو المدنيين المعارضين ممن أُزهقت أرواحهم من دون أن يخضعوا لمحاكمات عادلة.

واجهت الدولة السورية انتقادات شديدة بسبب وجود مثل هذه المحاكم من المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان، إذ لا يشترط مرسوم إحداث محاكم الميدان العسكرية وجود قضاة أو محامين، ويكفي أن تتشكل من ضابط لا تقل رتبته عن رائد (رئيس) وضابطين (أعضاء) لا تقل رتبتهما عن نقيب، بعد صدور قرار التشكيل من طرف قائد الجيش والقوات المسلحة، كما تنتهك هذه المحاكم أحد أهم حقوق المتّهم وهو "حق الدفاع"، بحيث لا تقبل أحكامها أي طريق من طرق الطعن.

أيّاً كان السبب الذي أُنشئت من أجله هذه المحاكم فهو سبب غير منطقي أصلاً لأن قراراتها غير قابلة للمراجعة والطعن وهي بذلك تخالف مبادئ القانون الدولي

لكن الانتقادات المتكررة لم تؤثر بالنظام السوري أو تجعله يحرك ساكناً، كما لم يتورع قادة الثكنات العسكرية أو القضاة العسكريون من القتل باسمها وتحت مظلتها، موقنين بأنهم مفلتون من العقاب والمساءلة.

أيّاً كان السبب الذي أُنشئت من أجله هذه المحاكم فهو سبب غير منطقي أصلاً لأن قراراتها غير قابلة للمراجعة والطعن وهي بذلك تخالف مبادئ القانون الدولي، لكن المشكلة تتبدى في أن الانتقادات التي طالتها بقيت في إطار العتاب الناعم ولم تتحول إلى اتخاذ موقف جديّ ضدها، ولم يُتخذ بحق النظام أي إجراء رادع يمنعه من ارتكاب التجاوزات بحق السوريين.

منذ اندلاع الثورة في عام 2011 لقي كثير من السوريين حتفهم بموجب أحكام تلك المحاكم، وهي بذلك لم تقتصر سلطتها على العسكريين وإنما امتدت لتشمل المدنيين بدعوى محاربة الإرهاب، وهو ما حصل أيضاً بعد أحداث الثمانينيات من القرن المنصرم في مدينة حماة وفي عام 1980 في وقت شمل فيه حافظ الأسد المدنيين بهذه المحاكم، بعد إضافة "عند حدوث الاضطرابات الداخلية" إلى مرسوم تشكيلها.

تصف الحكومة السورية نفسها بأنها دولة قانون، وهو أمر يعرف القاصي والداني أنه لا يتعدى اللغو إذ لا توجد في الواقع أي مؤشرات لإثبات ذلك، فالقضاء غير مستقل تسيطر عليه الأجهزة الأمنية والفساد مستشري في إدارة المؤسسات الحكومية، والقرارات الاستراتيجية للبلاد يتخذها القادة في سراديب مغلقة من دون إجراءات تشريعية ولا يتمتع المواطنون في هذه البلاد بحقوقهم البديهية.

نواجه في سوريا نظاماً يشرع القتل تحت مظلة قانون سنّه لحماية القتلة المأجورين الذين مكنهم من استخدام الصلاحيات وحصنهم بالسلطة والمنصب، وهو أمر تتفرد به سوريا دوناً عن كل مثيلاتها من الدول وتشكل مثل هذه الحالة سابقة دولية وتؤثر في اختلال ميزان العدالة العالمي.

وعلى الرغم من وضوح الصورة إعلامياً وواقعياً إلا أن النظام المافيوي يتعامل وكأنه يتمتع بحصانة تحميه من المساءلة الدولية مع أن الجريمة مثبتة ضده بالجرم المشهود، ويمتنع المجتمع الدولي عن اتخاذ أي إجراء يجرده من حصانته ويضعه أمام مساءلة دولية، ذلك أن دول العالم التي تتجاهل تجاوزاته وتغض نظراً عنها في واقع الأمر مستفيدة بشكل أو بآخر من وجوده وصلاحياته وأنها بمنحه تلك الحصانة المفترضة فهي تحمي مصالحها، وهذا إذا أثبت شيئاً فإنه يثبت أن النظام العالمي لا يختلف عن صورة الأسد الحقيقية وإن كان الإطار الذي يقدم فيه صورته مختلفاً بعض الشيء.

بين علمانية سوريا وعسكرتها يتأرجح شكل الدولة السورية في مساحة لا تبين لها ماهية ولا تحدد وصفاً، فالعلمانية في سوريا لا تشبه وصفها الذي نعرفه وما هي سوى مجرد شعار فضفاض تخفي فيه الدولة استبداد سلطتها وتسلط أجهزتها الأمنية، مستخدمة أسلوباً مختلفاً لتشويه المجتمع السوري بطرق مختلفة.

الأمر الأكثر أهمية أنه بإلغاء هذه المحاكم يدين نفسه ويثبت التهمة عليه وعلى أعوانه بعد إنكارهم وجود مثل هذه المحاكم لسنوات

أما فيما يخص المدنية فلم تكن سوريا دولة مدنية في أي حال من أحوالها ولم يتمتع مواطنوها بالحرية السياسية ولا حرية المعتقد، وإذا كانت حمى التشريعات التي أصابت النظام السوري قد أوحت له بأنه قادر على ذر الرماد في العيون وإيهام العالم بأنه ماضٍ في طريق التحول نحو تفكيك دولة العسكر، فهي خدعة لم تعد تنطلي على السوريين خاصة من فقدوا أبناءهم أو حُرموا من معرفة مصيرهم حتى اليوم بسبب تقديس سرية مستندات الدولة وعدم كشف سجلات هذه المحاكم، أما لماذا يستمر بمحاولة ذلك فالأغلب أنه يحاول تجميل صورته ليقدم نفسه بحلة جديدة للمضي في سيناريو طمس الذاكرة السورية وإعادة تعويم نفسه وإخفاء آثار جرائمه بحق السوريين خلال عقود.

الأمر الأكثر أهمية أنه بإلغاء هذه المحاكم يدين نفسه ويثبت التهمة عليه وعلى أعوانه بعد إنكارهم وجود مثل هذه المحاكم لسنوات، لكن الأمر الذي قد يخدع كثيرين أنه في إلغائه للمحاكم الميدانية وتحويل القضايا إلى محاكم القضاء العسكري، فإن ذلك لا يعني اختلاف الإجراءات القضائية _إذا كانت موجودة أصلاً_  خاصة أن محكمة الإرهاب تؤدي الدور نفسه، وفي الحالتين يبقى المتهم كالمستجير من الرمضاء بالنار ويكون أعزلَ أمام مؤسسة لا تخشى مراجعة ولا تتلقى لوماً في حال الخطأ، في دولة لا تشكل مؤسساتها المدنية منها والعسكرية سوى أذرع أمنية لبسط السيطرة وإحكام القبضة على السوريين بمختلف انتماءاتهم، وجرّ العاصين منهم إلى الزنازين والأقبية لتطبيق العقاب الرادع وفقاً لقوانين المافيا التي تحكمهم، وسواء ألغت السلطة مثل هذه المحاكم أم لم تفعل فذلك لا يجعل السوريين في مأمن من دولة الرعب التي أسسها نظام الأسد.