من يملك المال يملك السلطة

2024.02.13 | 07:15 دمشق

من يملك المال يملك السلطة
+A
حجم الخط
-A

تمسكت الثورة الفرنسية بمبدأ فصل السلطات الذي يقتضي استقلال السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية بعضها عن البعض الآخر عملاً بالمبدأ الذي شرحه مونتسكيو: "بأنه لما كانت خصائص السيادة تَختلف بعضها عن بعض وجب تفويضها من قِبَل الأمة إلى أناس مُستقلِّين بعضهم عن بعض".

لم تكن الثورات التي أعقبت الفرنسية أقل تمسكاً بذلك المبدأ، فقد اعتمدته الولايات المتحدة وتدين له كل من أوروبا وأميركا له في فترة استقرار الحكم بعد الثورات، وتطور الأنظمة البرلمانية والرئاسية.

من أين تبدأ الحكاية؟ من فكرة نشوء الدول، أو من الصراعات بين طبقات الشعب التي أدت بمجملها إلى ضرورة وضع قوانين صارمة لا تتمادى فيها الحكومة بإساءة استعمال السلطة، ولا تتمادى سلطة في صلاحياتها على الأخرى لحماية حقوق الأفراد وتحجيم الفساد من وساطات ورشاوى.

تكمن أهمية مبدأ فصل السلطات في ترسيخ مبدأ الحرية، لأنها تضمن تطبيق الحريات بمنعها تركز السلطة في يد شخص واحد أو مؤسسة واحدة، لأن من شأن السلطة المطلقة الإغراء بإساءة الاستعمال.

إن فكرة فصل السلطات يجب أن تكون متوازنة بالضرورة مع سيادة الدولة، من أجل بسط سيطرتها وهيمنتها على جوانب الحياة، وعلى الرغم من أنها نشأت كفكرة من أجل تعزيز فكرة الحقوق الطبيعية وتطبيق المساواة للأفراد والمواطنين على اختلاف مستوياتهم وانتماءاتهم، يبدو باطن الأمر مختلفاً من هذه الناحية إذ أن الدولة أرادت بذلك تعزيز قوتها وامتلاك أدوات لتحقيق ذلك في فترة ما بعد الملكية.

لأن المنفعة أصبحت أساساً فقد استطاع رأس المال التسلل إلى المناصب وخرق حصانتها، لأنه سعى تاريخياً إلى الاقتران بالسلطة من أجل تعزيز موقعه وفرض رؤياه على المجتمع

يبدو الأمر من هذه الزاوية فيه مراعاة للمصلحة العامة في حال التطبيق المثالي لكن الأمر لا يمكن أن يستمر على هذا المنوال على الدوام، إذ أصبحت الرغبة بتسلُّم زمام السلطة كبيرة من أجل تحقيق مكاسب شخصية، تتلخص في تعظيم شأن ذوي المناصب والصلاحيات في سن القوانين وتقريرها، لأنَّهم يستطيعون حينئذٍ التملص من إطاعة القوانين التي يسنُّونها، وجعلها متناسبة مع منافعهم الشخصية حتى وإن كانت منافية للنفع العام.

ولأن المنفعة أصبحت أساساً فقد استطاع رأس المال التسلل إلى المناصب وخرق حصانتها، لأنه سعى تاريخياً إلى الاقتران بالسلطة من أجل تعزيز موقعه وفرض رؤياه على المجتمع، كما احتاجت السلطة إلى المال للإنفاق على سياساتها وبرامجها، عدا عن أن الفساد المستشري في بعض السلطات استمر في سعيه إلى زيادة المال على حساب المصلحة العامة.

في المحصلة فإن أي طريقة قد تختارها الدولة أياً كان شكل الحكم قد تحمل مزاياها وعيوبها، لكنها تبقى تتحرى العدالة في حال بقي الشعب هو مصدر السلطات وبقيت عين العامة تراقب التشريع والتنفيذ والمحاكمة، لتكون ميزاناً يقوّم الشطط والانحراف، أما في حال تغير المعايير وفقاً لتغيير الأهواء والمنافع فإن ذلك يضعنا أمام أوضاع مختلفة تفرضها الظروف والمعايير الجديدة.

على خلفية الأوضاع السياسية في العقد الأخير في العالم من حروب وأوبئة، بدأت تتكشف لنا خيوط اللعبة الرأسمالية، وأصبحنا ندرك اليوم جيداً مدى سيطرة رأس المال على مقاليد الأمورد في العالم وتوغلها وتغلغلها في تفاصيل الحياة اليومية لنا كأفراد، أو قدرة رأس المال على توجيه استراتيجيات الشركات والتحكم في سياسات الدول.

تبدو الفكرة عصية على التخيل لكن بقدر ما هي كذلك بقدر ما تبدو مرعبة في حال كانت حقيقية، إذ تصبح مسألة استقلال السلطات أو فصلها غير ذات مغزى في ظل في مناخ كهذا أو في حال تحكم رأس المال بالسلطات وتوجيهها وإدارتها، ونصبح بالتالي مجرد كائنات يتحكم فيها رأس المال ويديرها وفقاً لتوجهاته، وتصبح الدول بالتالي مساحة رأس المال الخاصة لتحريك البيادق البشرية بحسب الاستراتيجية.

يؤكد هذه الفرضية ويدعمها أننا دول نامية مستهلكة بشكل كبير، ولا تتمتع باقتصاد مستقل يسمح لها بالتحكم بقراراتها ويضمن فرض سلطتها الحرة على أراضيها، من دون الانصياع إلى المؤسسات الرأسمالية التي تُموّل وتُقرض والخضوع لشروطها.

وتفقد الدولة وظيفتها التقليدية بتنظيم شؤون الأفراد، وتصبح تابعة بشكل تام لتلك المؤسسات أو للدول الرأسمالية الكبرى التي تهيمن بسياساتها على مقدرات الدول الفقيرة علمياً واقتصادياً.

لا ينطبق ذلك على الدول النامية فحسب فالدول المتقدمة تتأثر بتدخل رأس المال بالسياسة، وهو ما تبينه طريقة عمل اللوبيات السياسية وجماعات الضغط بتدخلها في سياسات الأحزاب وتوجيه الرأي العام، بحيث تحيد كثير من الأحزاب عن الهدف أو عما وعدت جمهورها به، ويصبح المواطن أداة لتحقيق سياسات رأسمالية قد يكون لها تبعات غير محبذة ومحببة على الصعيد الاجتماعي والإنساني.

إن أي خلل في التوازن في فصل السلطات يجعلنا نعيد النظر في فكرة الدولة ومصدر السلطات منذ نشأة الدول وتشكلها

العلاقة بين السياسة والاقتصاد علاقة تبادلية فعلى الدولة أن تسنّ قوانيناً تتناسب مع رفع السورية الاقتصادية في البلاد، وتمهد لازدهار اقتصادي ينعكس بالمجمل على رفاه الأفراد، لكن الاقتصاد يلعب دوراً أكبر في تحديد شكل الدولة ووضعها وقيمتها الإقليمية والعالمية، وهذا هو ما تفتقره الدول عندما تكون مستهلكة وغير منتجة.

إن أي خلل في التوازن في فصل السلطات يجعلنا نعيد النظر في فكرة الدولة ومصدر السلطات منذ نشأة الدول وتشكلها، لكن تدخل رأس المال السافر في شؤون العامة والتعدي على الحقوق والحريات الشخصية يجعلنا نعيش في عالم من يملك المال فيه يملك السلطة، لأنه يمتلك بذلك قوة تخوله بسط هيمنته على منافذ القرار وسلب الشعوب قوتهم التي يؤثرون فيها على الحكومات في حال الشطط والمغالاة.