مبادرات السوريين وقلق الهوية الوطنية

2019.04.07 | 00:04 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تنطلق المبادرات والدعوات المتكررة للحوار حول المشكلة السورية، من بديهية توفر انتماء وهوية وطنية سورية على الرغم من كل الشروخ والقلق الذي اعتراهما عبر سنوات المحنة الماضية!

وفي الواقع، طالما كانت الهوية السورية مثار اعتزاز وفخر للسوريين، خصوصا في مرحلة الاستقلال وبناء الدولة الجديدة. فكانوا يسارعون للتفاخر بانتمائهم إلى دولتهم الوليدة، وبدمشقها كعاصمة عريقة وممتدة في التاريخ، وإلى الاعتزاز برموز الانتماء الوطني من علم وأناشيد وأنهار بردى والعاصي واليرموك. يحملون معهم، أينما رحلوا وحلّوا، ذكرياتهم وحنينهم إلى العادات والتقاليد الكريمة والحميمة للعائلة الشامية، إلى جانب نكهات الأطعمة السورية ووجباتها الشهيرة، فضلا عن القصص النبيلة لرواد الاستقلال وشخصياتهم الحكيمة والطهرانية.

لكن المراحل السياسية اللاحقة عصفت بهذه المشاعر، فتعرّض الانتماء الوطني السوري إلى القلق والتغيّر، وذلك بدءا من عهد الوحدة القصير مع مصر، والذي لا شك أنه استند إلى مكون عروبي عريق في ذلك الانتماء، ثم ما لبث أن ارتد إلى الذات السورية بدءا من مرحلة الانفصال التي شهدت توترا خاصا نتج عن الإحصاء الاستثنائي لمنطقة الحسكة عام 1962 ، ثم لحقه إذلال وطني فاضح بدأ مع سقوط الجولان بيد إسرائيل في حرب حزيران 1967، وتضاعف مع عبثية مفاوضات سلام مقابل الأرض مع إسرائيل، التي لم تتوقف عن انتهاك السيادة السورية، بينما احتفظ النظام بحق الرد دوماً، وفقط عبر المنابر الإعلامية والدولية!

ومن أجل تعويض فقدان شرعيته الدستورية والوطنية، ارتكز إلى عصبية ضيقة، أحدثت شرخا جديدا في الانتماء الوطني السوري. وصارت منافذها العائلية والمناطقية آلية استقطاب وفرز

وهو نظام كان حافظ الأسد قد باشر القيام به بعد انقلابه على رفاقه في الحزب والسلطة عام 1970، تغطية لمسؤوليته المباشرة عن الانسحاب من القنيطرة قبل سقوطها. ومن أجل تعويض فقدان شرعيته الدستورية والوطنية، ارتكز إلى عصبية ضيقة، أحدثت شرخا جديدا في الانتماء الوطني السوري. وصارت منافذها العائلية والمناطقية آلية استقطاب وفرز، لم يكن حزب البعث على الرغم من إيديولوجيته ولاحقته الجبهوية أكثر من وسيلة أخرى لها!

فعبر العديد من الأزمات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها سوريا لاحقا، كأزمة مجزرة مدرسة المدفعية في حلب صيف عام 1979، أو مجزرة حماه شتاء 1982، أو مجزرة ملعب القامشلي 2004، صار من الشائع السخرية من مدن ومناطق سورية معينة، تحت ستار الوصف بالرجعية والمحافظة، بل صار الانتماء إليها محط اتهام وشبهة أمنية بحد ذاتها. وذلك ما حصل طويلا مع أبناء مدينة حماة، وبعض أحياء حلب، على سبيل المثال لا الحصر. نظرا لأن قمع السلطة وردها على الاحتجاجات الحاصلة، كان غير مسبوق، وفاق كل تصور، بلجوئها إلى عنف بربري طاول المجتمع المحلي بأسره في تلك المدينتين، وتجاوز كل معنى للعدالة والمسؤولية الفردية، وصولا إلى العقاب الجماعي للمدن والأحياء وسكانها. الأمر الذي أحدث صدمة عميقة في الوجدان السوري، وأدى إلى انتشار حالة من الرعب والهاجس الأمني، كثيرا ما كانت بديلا محبطا لكل مشاعر الانتماء الوطني!

منذ ذلك التاريخ، تمزّق السوريون بين انتمائهم الوطني الواحد والحامل لقيم الاستقلال الرفيعة، وبين الانتماء إلى ملحقات السلطة. فصار من المعتاد ألا يطمئن السوري إلى السوري الآخر، إلا بعد التعرف على منطقته أو طائفته ومدى قربه أو بعده عن أجهزة السلطة الأمنية. أما من خرج على ذلك، فلم يكن أمامه إلا الانعزال في مملكة الصمت، أو السوق إلى السجن المطوّل، أو منفى الخارج، وأمثلة ذلك لا تعد ولا تحصى!

منذ ذلك التاريخ، تمزّق السوريون بين انتمائهم الوطني الواحد والحامل لقيم الاستقلال الرفيعة، وبين الانتماء إلى ملحقات السلطة. فصار من المعتاد ألا يطمئن السوري إلى السوري الآخر

ذلك أن الانتماء الذي كان جامعاً، ومثار اعتزاز ومحط آمال، كما يفترض بأي انتماء وطني، صار مجال خوف أمني في الحاضر وقلق على المستقبل الشخصي والعائلي!

وقد هجع ذلك التمزق الوطني طويلا تحت ستار القمع، إلى أن انفجر شباب سوريا في ربيع عام 2011، وخرجوا في محافظات سورية عديدة مطالبين باسترداد الحرية والكرامة، مؤكدين هويتهم وانتماءهم إلى شعب سوريا الواحد، ومبرزين في لافتاتهم وفي أغانيهم وشعاراتهم أسماء محافظاتهم ومناطقها وأحيائها المهمشة والمنفية خارج سيطرة السلطة ورموزها.

في هذه المرحلة، عاد الانتماء الوطني السوري قوياً ومشبعاً بالآمال، إذ أعطته مظاهرات الثورة وشعاراتها مضامين جديدة، فبرزت الهوية الوطنيه مستقلة عن صورة السلطة العائلية الفاسدة، وطامحة لصورة عصرية جديدة منفتحة على الحرية والديمقراطية، ومتطلعة إلى المواطنة المتساوية، بكل ألوان أطيافها المتنوعة، في ظل دولة القانون المتعالية على جميع الاختلافات والتمايزات، دولة الكل السوري الواحد، الذي يغتني بكل أجزائه، ولا يختصر بأي منها.

لكن هذه الصورة المشرقة للهوية، والتي تعرف فيها السوريون على المجموع الكلي لسوريا، ما لبثت أن عادت سريعا للتشظي، تحت وقع القمع العنيف لسلطة الأسد الابن، الذي وصل كما هو معروف، إلى حد القصف بالطائرات والكيماوي، وإلى الاستعانة بالتدخلين العسكريين الإيراني والروسي. مع إطلاق خطاب متدن عن سوريا المفيدة للنظام، بما عناه ذلك من استبدال سكاني مجرّم دوليا. بعد أن تم دفع ملايين السوريين إلى محنة اللجوء خارجيا، ودفع ملايين آخرين إلى النزوح داخليا.

لذلك ليس غريبا أن يتردد كثير من اللاجئين السوريين اليوم أمام حلمهم وحقهم بالعودة، فهم يتمزقون بصور ودرجات مختلفة بين انتمائهم السوري الذي كان مثار قلق ورعب لهم، وبين خيارات انتماء جديد إلى مشاعر الأمان والكرامة التي تمنحها إقامتهم في بعض دول اللجوء، أو معاناة مشاعر مضطربة، تحت اضطهاد جماعات مسلحة أو دول جوار تسعى جاهدة للتضييق عليهم والتخلص منهم.

لذلك ليس غريبا أن يتردد كثير من اللاجئين السوريين اليوم أمام حلمهم وحقهم بالعودة، فهم يتمزقون بصور ودرجات مختلفة بين انتمائهم السوري الذي كان مثار قلق ورعب لهم، وبين خيارات انتماء جديد إلى مشاعر الأمان والكرامة التي تمنحها إقامتهم في بعض دول اللجوء

وإلى ذلك، فإن سوريي الداخل الذين يعيشون في مناطق سيطرة النظام، ليسوا أحسن حالا. وهو أمر لا يعود فقط إلى مسار الكارثة التي عاشوها، ولا إلى الأحوال المعيشية الشديدة القساوة والشظف، بدلالة الغلاء الفاحش والطوابير الطويلة المشهودة على الخبز والوقود، بل إنه يعود أيضا إلى الحواجز والتفتيش الأمني الذي يقطّع طرقاتهم في كل مكان حولهم، فيدفع بعضهم إلى تجنبها، وقضاء وقت أطول وأكثر مشقة في الدوران حولها، بهدف تجنب عرض بطاقات الهوية عليها، وهي بالمناسبة بطاقة إلكترونية جديدة رصد لها نظام الجريمة في عز أزمته مبلغ 28 مليون يورو، كي تخدم أغراض تحكمه بالمواطنين وتفرزهم من جديد. ولم تعد للمفارقة وسيلة لتأكيد شخصية المواطنين وتسهيل معاملاتهم الرسمية، بل صارت وسيلة لمراقبتهم وضبط تحركاتهم، وكثيرا ما أدّت إلى سوق بعضهم مرغمين إلى الخدمة العسكرية للقتال ضد مواطنيهم، كما عرّضت آخرين إلى إذلال لحق بهويات فرعية، مناطقية أو طائفية، وانتهى أحيانا بالاعتقال التعسفي أو الخطف والاختفاء، إن لم يتداركوا ذلك باللجوء إلى الرشوة والفساد المتضخم، وفي ذلك أهون الشرور على الرغم من كل شيء.

من هنا، فإن الدعوة لأي حل سوري، لا بد لها من أن تنطلق من توفير شروط إحياء مشاعر الانتماء الوطني الجامع، وهو ما يتطلب استعادة هوية الدولة الوطنية المتعالية على كل فئوية وعصبية، سواء كان ذلك مرتبطا بسلطة محلية أم باحتلالات أجنبية.

وحقا، فقد تغيّر معنى الهوية السورية وتعرض للشروخ والقلق، لكن ذلك حدث في التاريخ المعاصر، ولم يكن يوما ما معطى قبليا ولا ثابتا. وبقدر ما يبدو مشكلة اليوم، فلا شك أنه سيكون محط اهتمام جميع الوطنيين السوريين المخلصين، وخصوصا الشباب منهم، والذين سيهتدون بقول الثائرة الراحلة مي سكاف: "إنها سوريا العظيمة وليست سورية الأسد".