icon
التغطية الحية

مافيا الشرق الأوسط بين "كي جي بي" وبوتين.. عملاء روس يروون قصتهم

2021.07.01 | 06:32 دمشق

14746552131376.jpg
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ـ إنترنت
إسطنبول ـ عمر الخطيب
+A
حجم الخط
-A

بالرغم من اجتهاد هوليوود بصناعة كل تلك الأفلام المثيرة عن الاستخبارات والعملاء السريين وقدراتهم الخارقة، فإن واقع عمل الاستخبارات يبقى أبسط كثيراً من أفلام جيمس بوند لكنه، وبالوقت نفسه، أشد إيلاماً ودموية بمراحل، فعمليات الاغتيال التي نفذتها مختلف أنواع المخابرات تم كشفها بطريقة أو بأخرى ولكن العمل الأكثر تدميراً هو ذاك النوع الآخر الذي يصعب كشفه، وأخيراً تحدث عميلان للمخابرات الروسية عن عملهما في النوع الآخر الذي يخلو ربما من الإثارة ولكنه متخم بتدمير حيوات كثيرة.

أتذكرون!

شهدت الشهور الأولى من انطلاق الثورة السورية انتشار نمط معين من القصص، يرويها أشخاص، يزعمون أنها جرت في إحدى المدن وتكون مروية غالباً عن لسان أحد أقرباء هذا الشخص، ومن أشهر هذه القصص، التي رُويت باختلافات بسيطة من أشخاص مختلفين بشكل شبه متزامن، تلك التي تتحدث عن اقتحام منزل شخص ما وقتله مع عائلته لا لشيء إلا بسبب دينه أو مذهبه، الذي يختلف باختلاف المنطقة التي يتم رواية القصة فيها.

قصص ما لبثت أن انتقلت إلى مواقع التواصل الاجتماعي وتحولت إلى مقالات وتقارير، لا مصادر لها ولا مصداقية، لتنتشر على مواقع إلكترونية غير معروفة، وبدأت أسماء من بريطانيا وأميركا وكندا وأسراليا تظهر مسبوقة بصفة صحفي أو محلل أو خبير وكلها تؤيد الأسد وروسيا وتنكر المجازر والهجمات الكيماوية وتهاجم السوريين، وتقوم بالترويج للبروباغندا الروسية بكل إصرار واستمرارية.. نعم فمنذ عشر سنوات ما زالوا يكتبون وينشرون على وسائل التواصل الاجتماعي ويظهرون على شاشات روسيا والنظام.

قفزت إلى رأسي المرة الأولى التي سمعت بها مثل هذه القصص في أثناء إعدادي لهذا التقرير مع تتبعي لقصة أقرب إلى الخيال عما يسمى بمجموعة "مافيا الشرق الأوسط" في الاستخبارات الروسية، هذه المجموعة التي أنشأتها استخبارات الاتحاد السوفييتي "KGP" وورثتها روسيا، ولتكون مسؤولة عن إعادة بناء الاستخبارات مع وصول فلاديمير بوتين إلى رأس السلطة الروسية.

"مافيا الشرق الأوسط"

من المعروف أن الاتحاد السوفييتي اعتمد كثيراً على جهاز مخابراته الضخم "كي جي بي" في غزو العالم بالجواسيس، ودولنا العربية كانت كغيرها مرتعاً لهؤلاء، ومن هنا تبدأ قصة مجموعة "مافيا الشرق الأوسط"، فهؤلاء العملاء، المعروفون ضمن دوائر "كي جي بي" بالمستعربين، أمضوا سنوات طويلة في بلدان الشرق الأوسط تحت صفة خبراء ومستشارين ومراسلين صحفيين، واستطاعوا السيطرة على فرع العمليات الخارجية للـ"كي جي بي" واستمروا على رأس القسم الذي ورثته روسيا الاتحادية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أعاد بوتين إحياء القسم من جديد بقيادته القديمة، تحت اسم" SVR" وهكذا عادت "مافيا الشرق الأوسط" للعب من جديد بأساليبها القديمة القائمة على نشر الدعاية والتضليل والترويج لنظرية المؤامرة والعداء الكامل للغرب.

تبدأ قصة "مافيا الشرق الأوسط"، كما جاء في تقرير بموقع "ديلي بيست" للصحفي أندريه سولداتوف "كيف أعادت مافيا الشرق الأوسط تشكيل فن التجسس في روسيا"، مع قيام الرئيس المصري السابق أنور السادات، 1981، بطرد مئات الخبراء والموظفين السوفييت من مصر تحت اتهام قيامهم بالتجسس ونشر الفتنة الطائفية بين المسيحيين والمسلمين في مصر كان ضمن هؤلاء العديد من عملاء الـ"كي جي بي" الذين يتقنون اللغة العربية وأمضوا سنوات طويلة متنقلين من سفارة إلى آخر بالشرق الأوسط، هؤلاء عادوا إلى الاتحاد السوفييتي ليتم إعادة توزيعهم وترقية بعضهم، ومع انهيار الاتحاد السوفييتي سيطروا على القسم الخارجي للاستخبارات وقاموا من سباتهم مع بوتين ليعيدو إحياء ما يبرعون فيه وهو التغلغل في المجتمعات الأجنبية والقيام بألعابهم الدعائية من خلال نشر الأكاذيب والترويج للفتن بحسب الطلب.

أحد عملاء مافيا الشرق الأوسط "قسطنطين كابيتونوف" التقى به الصحفي سولداتوف، ويروي كابيتونوف كيف أنه كان يتجسس في مصر كمراسل لصحيفة " Trud/العمل" السوفييتية وبعد تولي بوتين السلطة تم تعيين كابيتونوف في إسرائيل، وهذه المرة كان بصفة مراسل مستقل، ويقول سولداتوف كيف أنه تعرف إلى كابيتونوف من خلال مقالات كان يرسلها إلى موقع يعمل به، من دون أن يطلب بدلاً مادياً لتلك المقالات.

ويروي العميل كابيتونوف باستمتاع كيف أنه بعد عودته من إسرائيل أمضى جل وقته وهو يسهم في نشر البروباغندا الروسية اتجاه أوكرانيا فكان مختصاً بالسياسية الأوكرانية يوليا تيموشينكو إحدى قياديات الثورة البرتقالية في أوكرانيا والمستهدفة من قبل روسيا وحلفائها في أوكرانيا، وتحدث عن عشرات المقالات التي كتبها للنيل من يوليا وكيف أن قيادته طلبت منه تجنيد المزيد من الكتاب لنشر البروباغندا المضادة للقيادات الوطنية المعارضة لروسيا في أوكرانيا، كانت قصص كابيتونوف وزملائه تملأ الفضاء الإلكتروني وتستهدف إحداث الفوضى وزرع الشكوك في الدول التي تستهدفها موسكو من أوكرانيا إلى سوريا إلى أفغانستان إلى أفريقيا الوسطى وليبيا.

بمال الاستخبارات الروسية

قصة عميل روسي آخر يرويها موقع "مجلة الخطوط الجديدة" وهو، فاديم مايوروف، من جهاز الاستخبارات الروسي الفيدرالي "FSB"، حيث تغلغل مايوروف في مجموعة من الشباب الغاضب الذي كان يستعد للنزول في مظاهرات غاضبة ضد بوتين دعت إليها إحدى جماعات المعارضة الصغيرة في 5 تشرين الثاني 2017، واستطاع مايوروف التغلغل في أوساط المتعاطفين مع هذه المظاهرات من خلال معارف لزوجته السابقة، وبدأ بكتابة التقارير عن إحدى المجموعات، ثلاثة شبان.

وحين اتضح أنهم بحقيقة الأمر لا نيات تخريبية عندهم وإنما يتلخص الموضوع بالمشاركة في المظاهرات السلمية التي يعتقدون أنها ستكون مفتاحاً لثورة شعبية تطيح ببوتين، تم الطلب من مايوروف أن يوحي إليهم بضرورة استخدام الأسلحة، لتتمكن الاستخبارات من اعتقالهم، وفعلاً طرح مايوروف ضرورة التحضير لهذه المظاهرات عبر تجهيز قوارير مولوتوف وسيدفع هو ثمنها. وهذا ما كان فعلاً حيث قام الشبان بشراء البنزين والقوارير بمال الاستخبارات الروسية.

وكما لنا أن نتوقع تم القبض عليهم وبحوزتهم القوارير وتم اتهامهم بالتخطيط لحرق مبنى الكرملين، وظهرت الاستخبارات الفيدرالية على أنها أحبطت مخططاً خطيراً ضد بوتين، ونتج عن عملية الاعتقال هذه إطلاق عملية واسعة في روسيا لاعتقال أعضاء المجموعة المعارضة والمتعاطفين معها، وتكرر في وسائل الإعلام الروسية كيف تم تفكيك خلايا إرهابية ومصادرة أسلحة ومتفجرات. ولم يتوقف الأمر هنا إذ طلبت الاستخبارات من مايوروف أن يقدم شهادته في المحكمة ضد الشبان الثلاثة الذين يعلم أنهم أبرياء وأنهم تعرضوا لمختلف أنواع التعذيب من عناصر الاستخبارات، سوف تسنح لاحقاً الفرصة لمايوروف للسفر خارج روسيا حيث قرر عدم العودة ويمضي حياته حالياً متخفياً.

التلميذ النجيب

 قال بوتين في 2012 "القوة الناعمة تتألف من مجموعة من الأدوات والأساليب المستخدمة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية من دون استخدام القوة، من خلال المعلومات وغيرها من وسائل النفوذ"، بطبيعة الحال جعل بوتين ما سماها بالقوة الناعمة تبدو كأسلوب خاص به ومناقض للقوة ولسفك الدماء، ولكن ما جرى عبر تاريخ طويل للاستخبارات الروسية وقبلها السوفييتية يدل على أن هذه القوة الناعمة هي دموية بقدر السلاح نفسه وتستهدف وعي الشعوب بالأكاذيب والحيل التي تؤدي إلى انقسام المجتمعات والقضاء على القيادات المجتمعية التي تصبو إلى الحرية والديمقراطية.

ولم يكن نظام الأسد، كما يظهر بوضوح من خلال مقارنة اعترافات العملاء الروس بأفعال النظام، إلا مقلداً متواضعاً لأسلوب الاستخبارات الروسية، فما بدأ كإشاعات وقصص بثها النظام عبر عملائه وتابعيه، تحول إلى موجة من الأخبار الكاذبة والروايات الخيالية عن مؤامرات كونية غزت، بفضل روسيا وإيران، وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الإعلامية، في محاولات ما زالت تُبذل بكل إصرار واستمرارية لزرع الاقتتال البيني وتشويه ثورة السوريين وسحبها من خانة النضال المشروع للحرية والديمقراطية بوجه الديكتاتورية والتسلط.