قطر تعيد تقديم العرب وتتحدى صراع الحضارات

2022.12.07 | 06:03 دمشق

قطر تعيد تقديم العرب وتتحدى صراع الحضارات
+A
حجم الخط
-A

لم تتوقف الهجومات الإعلامية والسياسية على مونديال قطر من لحظة تفكير قطر بتقديم طلبها لاستضافة الحدث الرياضي الأضخم حول العالم حتى اللحظة، ومن المتوقع أن تستمر الحملات حتى سنوات قادمة ليس بسبب فشل قطر في تنظيم المونديال بل على العكس بسبب نجاحها فيه.

انطلقت الحملات بالتصويب على قطر من بوابة الطقس وبأن قطر تكون حارة جدا في الصيف كما جرى التصويب على البلاد بأنها لا تمتلك الملاعب الكافية والتجهيزات اللازمة من حولها. فعلت قطر المستحيل لتبني تحفاً معمارية على شكل ملاعب رياضية بتجهيزات وتسهيلات هائلة منفقة أكثر من مئتي مليار دولار على الملاعب ورفاهية الحضور والتنقل والسكن والترفيه. كما حلت مشكلة الطقس بسلاحين سلاح تبريد الملاعب وسلاح نقل المونديال إلى نهاية العام حيث الطقس الألطف في قطر إلا أن ألسنة النقاد لم تتوقف.

ثارت ثائرة كثيرين لمنع قطر المشروبات الكحولية في الملاعب (وهو إجراء معتمد في عدد من الملاعب العالمية) ومنع المظاهر المثلية مراعاة لثقافة البلاد العامة وهو ما أثار غضبا واسعا من اتحادات ولاعبين وإداريين وإعلاميين وسياسيين ليخرج بعضهم بمواقف رمزية داخل الملعب كموقف المنتخب الألماني الشهير بتكميم أفواههم في الصورة الافتتاحية لمباراتهم الأولى اعتراضا على منع "الفيفا" لهم، ولغيرهم، من ارتداء شارة "حب واحد".

العرب فكعادتهم أخذوا الأمور على عاتقهم ليعتبر الجميع أن المونديال هو مونديال العرب كلهم وليس قطر وحدها

في المقابل، كان تداخل الثقافات والأعراق يشكل تحفة فريدة في مدرجات وساحات قطر عامة في صور لا تنتهي تعبر عن سعادة الجماهير بهذه الاستضافة كما تعرفها على الثقافة العربية بشكل أعمق. أما العرب فكعادتهم أخذوا الأمور على عاتقهم ليعتبر الجميع أن المونديال هو مونديال العرب كلهم وليس قطر وحدها كما أن كل منتخب عربي هو منتخب كل العرب على حد سواء ليظهر كل عربي متوتر عند الافتتاح وسعيد في الوقت نفسه بنجاحه، ومشجع بكل قوة لكل ما يمت للمونديال والمنتخبات العربية بصلة. لم يقتصر الموضوع على الجماهير بل تعداه للسياسيين فكان مشهد ارتداء أمير قطر لوشاح السعودية ومبادلة ولي عهد المملكة الفعل نفسه خير تعبير عن التظافر العربي.

عبر العرب عن نفسهم في هذا المونديال وكانوا على راحتهم فأظهروا معادنهم على مختلف المستويات من حسن الضيافة القطرية واتقان التنظيم الذي أثنى عليه كل منصف واعتبره التنظيم الأفضل في تاريخ كؤوس العالم كما ظهر العربي بوجهه السمح، المرح والمحب للحياة والذي حاول كثيرون في العقود الماضية تصويره على أنه إما إرهابي أو ساذج مرفه. كما أظهر العربي شهامته واندفاعه للمساعدة فكانت سمة غالبة للعرب لاحظها كل من تواجد في قطر ومنهم مدرب منتخب البرازيل الذي صرح باحثا ومثنيا على مشجع متوشح للعلم الفلسطيني حمل حفيدة المدرب لمسافة طويلة لمساعدة العائلة.

عبّر العرب عن أنفسهم كذلك بالوحدة الشعورية والتفاعلية التي تحدثنا عنها كما وحدة القيم والقضية والفخر والاعتزاز بما يملك. لطالما عانت مجتمعاتنا من ضعف الثقة بالنفس واستصغار الذات مقارنة بالآخرين ولكن هذه المرة لم يجد الجمهور العربي والإدارة الرسمية للمونديال حرجا من التمسك بقيمها تجاه ما تراه صوابا وخطأ وأظهرت ذلك علانية.

المونديال كان كذلك فرصة لاختبار التطبيع العربي الشعبي مع الكيان الصهيوني فظهر بشكل واضح لكل المتابعين من خلال مقاطع الفيديو الكثيرة تعامل الجمهور العربي على اختلاف جنسياته مع الإعلامي الإسرائيلي رفضا للحديث معه أم ملاحقته بالعلم والشعارات الفلسطينية. هذا الانتماء العربي لفلسطين لم يظهر فقط مع الإعلامي الإسرائيلي بل ظهر في المدرجات وفي كل مباريات المنتخبات العربية وغير العربية حتى من خلال الأعلام الفلسطينية المنتشرة بين الجماهير والهتافات المؤيدة للقضية والحاضرة في مختلف المباريات وهو ما يؤكد بأن الشعب العربي لم يطبع ولا يبدو بأنه سيطبع قريبا مع إسرائيل على الرغم من تطبيع قياداته.

قدمت قطر والعرب نموذجا حضاريا يدعو للانفتاح على الجميع معارضة نظرية الصراع بنظرية التلاقي

هذه الملامح الذي ظهرت تشكل في وجدان العرب هويتهم بتمسكهم بالثوابت مع الانفتاح على الجميع كجزء أساس من هويتهم وقيمهم التي تشمل حسن الضيافة، الشهامة، الثقة في النفس وإتقان العمل. هذه القيم من المفترض أن تدحض أي ادعاء بسعي الدول العربية أو الإسلامية للتصادم مع الحضارة الغالبة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وهي الحضارة الغربية "غيرة من موقعها الأعلى في هذه اللحظة من التاريخ". على العكس من ذلك تماما، قدمت قطر والعرب نموذجا حضاريا يدعو للانفتاح على الجميع معارضة نظرية الصراع بنظرية التلاقي.

إلا أن المشكلة كانت بأن "الاستابلشمنت" الغربي، وبدل أن يتلقى هذه الإشارات ويمد يده لها لتقديم نموذج كامل من تلاقي الحضارات وتعاونها، كابر وتعالى ليقدم نموذجا عكسيا عن صراع الحضارات ليس من بوابة "غيرة الضعيف من القوي ولكن غيرة القوي من تألق الضعيف" وهي ثغرة كبيرة رأيناها سابقا في دعم الثورات المضادة ونراها الآن في عالم الرياضة وهي مؤشرات تؤكد تهالك المجتمع الغربي قيميا أقلها تجاه الآخر وتدق ناقوس الخطر القيمي في مجتمع أكثر ما تغنى وتميز به هي قيم الحرية والانفتاح.