icon
التغطية الحية

فورين بوليسي: حماقة العودة للتعامل مع الأسد

2022.09.29 | 16:35 دمشق

ئءؤر
معبر نصيب الحدودي بين سوريا والأردن
فورين بوليسي - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

خلال الأسابيع الأخيرة، دارت التكهنات حول احتمال تفكير تركيا بالعودة للتعامل مع نظام بشار الأسد بطريقة ما، وعلى الرغم من وجود كثير من الأسباب التي شككت بهذا الاحتمال كثيراً، إلا أن فكرة البحث عن قنوات جديدة للتواصل مع النظام في دمشق لم تكن مجرد تطور جديد لمجرى الأحداث.

إذ على الرغم من سجل نظام الأسد المرعب مع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ومعرفة الجميع بكل ذلك، مع تأكيد المدعين العامين الدوليين على وجود مزيد من الأدلة التي تكفي لإدانة نظام الأسد بارتكاب جرائم دولية أكثر من تلك التي قدمها المجتمع الدولي في محاكمات نورمبيرغ لإدانة الحزب النازي الذي تزعمه الديكتاتور السابق أدولف هتلر، إلا أن العديد من الحكومات في الشرق الأوسط سعت مؤخراً للعمل بسياسات تتيح لها العودة للتعامل مع نظام الأسد والتطبيع معه، وفي ظل المناخ السائد اليوم، لا بد من التفكير بمصير تلك المبادرات التي أثارت كثيرا من الجدل، وعواقبها.

محاولة إماراتية فاشلة

كانت الإمارات أكثر من دفع بعزم وتصميم نحو التطبيع مع الأسد، عبر الاستعانة بالعلاقات التجارية وأفق الاستثمار في الصناعة والبنية التحتية بسوريا بوصف ذلك قناة رئيسية بالنسبة لها. ولهذا فرش كل من ولي عهد إمارة دبي، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، والشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حاكم دبي، السجاد الأحمر للأسد خلال زيارته المفاجئة للبلاد في شهر آذار الماضي، والتي لم يكتشفها كبار المسؤولين الأميركيين إلا من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، بما أن أبوظبي لم تلوح لهم بذلك بشكل مسبق. بيد أن الجهود التي بذلتها الإمارات، والتي تسببت بإخراجها من مجموعة التواصل الدولية بشأن سوريا، لم تفلح في تحقيق أي اتفاق مهم مع دمشق، بل لفتت إليها انتباه السلطات التي تقوم بفرض عقوبات في كل من أوروبا والولايات المتحدة، إلى جانب بدء تركيز أجهزة التحقيق الدولية على الفساد المستشري في الإمارات وغسيل الأموال والتهرب من العقوبات فيها.

محاولات عربية أخرى

أما الجزائر، فقد تجنبت الوقوف ضد النظام السوري لفترة طويلة، لكنها عملت بشكل مكثف خلال الفترة بين 2021 و2022 لإقناع الدول الأعضاء في الجامعة العربية على إعادة سوريا لمقعدها في الجامعة، بيد أن هذه الجهود منيت بالفشل اليوم. ولفترات متقطعة سعت كل من مصر والبحرين وعُمان للعودة للتعامل مع نظام الأسد، إلا أن أياً منها لم يحقق نتيجة مهمة تذكر.

التجربة الأردنية

ولعل الفشل في العودة للتعامل مع الأسد دون العمل على إضفاء لمسة مصداقية مجانية على ذلك مع تقويض قضية العدل في السياق يتجلى بأبهى صورة مع الأردن، إذ على الرغم من أن هذه الدولة بقيت طوال فترة طويلة داعماً مهماً وأساسياً للمعارضة المسلحة السورية المناهضة للأسد، منذ عام 2012، إلا أن الأردن انقلب على المعارضة في عام 2017 و2018، حيث قفز إلى المشهد في نهاية المطاف ليعطي الضوء الأخضر للحملة الوحشية التي شنها النظام السوري بتنسيق روسي على الجنوب السوري في صيف عام 2018. ويمثل تفكير عمان في الانقلاب على المعارضة السورية رغبتها بحفظ الاستقرار على حدودها، وخلق الظروف المواتية أمام عودة اللاجئين، والتخلص من خلايا تنظيم الدولة في الجنوب السوري، إلى جانب القضاء على الوجود الإيراني ووجود ميليشيا حزب الله الكبير في المنطقة.

وهكذا، وفي الوقت الذي كان فيه الآلاف من السوريين يتعرضون لحصار سريع وقصف عشوائي من البر والجو، أرغم الأردن شركاءه في الجيش السوري الحر على الاستسلام، وذلك بحسب المقابلات التي أجريت مع قادة الجيش الحر في ذلك الحين، ومقابل ذلك، وعدت الأردن هؤلاء القادة بعقد مصالحة معهم بموجب ضمانة روسية.

ومقابل نية الأردن في الانقلاب على شركائها والتخلي عنهم دون وجود أي نصير لهم، سارعت سوريا والأردن لإعادة فتح معبر نصيب في تشرين الأول 2018، وذلك لاستئناف العمليات التجارية بين البلدين. وخلال السنين التي أعقبت ذلك، ارتفعت نسبة التجارة بين البلدين بحدود 17% أي ما يعادل بمجمله 94 مليون دولار اعتباراً من عام 2020، أي بما يقل بنسبة ضئيلة عن كلفة طائرة إف-16 من الطائرات الخمسين المقاتلة التي تعمل لدى سلاح الجو الملكي الأردني.

وبعيداً عن الفائدة الضئيلة لاستئناف التجارة، فشل الوعد الروسي بالمصالحة فشلاً ذريعاً، وبذلك أصبحت محافظة درعا اليوم المحافظة الأسوأ في سوريا من حيث انعدام الاستقرار، وذلك بسبب تعرضها لهجمات من قبل النظام بشكل يومي، فضلاً عن الصراع بين الفصائل، والاغتيالات، وغير ذلك. ووسط هذه الفوضى التي لم تتمكن روسيا من أن تجد لها حلاً، لم تبق إيران وحدها في المنطقة فحسب إلى جانب حزب الله وشبكة من الميليشيات المحلية التي تعمل بالوكالة تحت إمرتها، بل توسعت هي ووكلاؤها في المنطقة عبر مد نفوذهم ونطاق وجودهم، إذ أصبحت تدير نحو 150 مقرا عسكريا في عموم أنحاء الجنوب السوري. في حين يواصل تنظيم الدولة شن هجمات متفرقة في المنطقة.

الكبتاغون كمخرج لسوريا ودليل للأردن

إن لم يكن كل ذلك دليلاً كافياً على فشل محاولة الأردن في العودة للتعامل مع نظام الأسد، إذاً لابد لموجة تهريب المخدرات التي يمولها نظام الأسد عبر الأردن أن تكفي للتأكيد على تلك الحقيقة. إذ بما أن الاقتصاد السوري بات في حالة مزرية عقب 11 عاما من النزاع، وعقود كثيرة من الفساد، لذلك لجأت الطبقة المقربة من النظام للمخدرات، وخاصة إنتاج الكبتاغون بطريقة غير مشروعة، وهو نوع من المنشطات يشبه الأمفيتامين، يعرف باسم: "كوكايين الفقراء". وهكذا، وبفضل صناعة الكبتاغون، أصبحت سوريا اليوم دولة مخدرات ذات شأن على الصعيد الدولي. إذ في عام 2021، تم إنتاج كبتاغون بقيمة بلغت 30 مليار دولار في مصانع تخضع لحراسة متعهدين عسكريين من القطاع الخاص، ليتم تهريبها خارج سوريا على يد أقوى جهة أمنية في البلاد، ألا وهي الفرقة الرابعة مدرعات، التي يترأسها شقيق الأسد، ماهر، وذلك بالتنسيق مع حزب الله.

هذا ويعادل مبلغ 30 مليار دولار قيمة الصادرات السورية بشكل قانوني بــ 35 ضعفاً، أي باختصار، لا يوجد أي قطاع اقتصادي أهم من هذا القطاع، وهذا ما جعله يزدهر بشكل كبير. إذ بحسب ما ذكره مسؤولون أردنيون، فإن 16 مليون حبة كبتاغون قادمة من سوريا تمت مصادرتها ضمن الأراضي الأردنية خلال عام 2021، وخلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2022، وصل ذلك العدد إلى 20 مليون حبة، أما اليوم، فقد بلغ العدد 33 مليوناً. وهنالك ارتفاع كبير في حجم وكميات أنواع أخرى من المخدرات القادمة من سوريا والمصادرة في الأردن، مثل الهيروين الذي زادت كمياته من كيلوغرام واحد في عام 2021 إلى 36 كيلوغراماً حتى الآن من عام 2022، هذا على سبيل المثال.

على الرغم من وجود عمليات تهريب محدودة للمخدرات على الحدود السورية-الأردنية، إلا أن حجم تجارة المخدرات السورية قد ارتفع بشكل كبير خلال العامين المنصرمين، ليبلغ أقصى ارتفاع له مباشرة عقب القرار الذي اتخذه الملك الأردني عبد الله الثاني بشأن إجراء حوار هاتفي مع الأسد في تشرين الأول 2021 (وقد واصلت هذه النسبة الارتفاع منذ ذلك الحين). ومنذ ذلك الحين، قتل العشرات من الأشخاص في اشتباكات على الحدود حدثت بسبب تجارة المخدرات السورية، وعلى الرغم من كون الأردن بالأصل نقطة عبور باتجاه السوق الرئيسية في الخليج العربي، إلا أنها تحولت إلى سوق مهمة منذ ذلك الحين هي أيضاً، فقد تفشى تعاطي الكبتاغون في المملكة الأردنية اليوم بشكل بات يوصف بالجائحة، خاصة بين صفوف الشبان، والعاطلين عن العمل الذين بلغت نسبتهم 30%.

وهكذا أتت مكافأة الأردن على محاولتها العودة للتعامل مع نظام الأسد على شكل موجة تهريب مخدرات غير مسبوقة، ما يعبر عن أقصى حالات السخرية التي يبدي الأسد استعداده لمعاملة جيرانه الذين سعوا لإسقاطه منذ فترة قريبة من خلالها. إذ بناء على حجم صناعة الكبتاغون الهائل في المناطق التي يسيطر عليها النظام في سوريا، فإن الارتفاع الكبير والهائل في تهريبه إلى الأردن لم يأت فجأة أو بالمصادفة، بل يؤكد على الأهمية الوجودية لتجارة المخدرات بالنسبة لاقتصاد الأسد المتعثر. إذ عندما تسوء الأحوال، يصبح تداول أموال المخدرات أهم من محاولات التشجيع على العودة للتعامل مع النظام إقليمياً، وأهم من كل ما يدفع باتجاه التطبيع مع النظام، أي بمعنى أصح، يمكن القول إن الأسد يسعده كل ما يحصل، وليس أمامه أي خيار سوى أن يستولي على كعكته وأن يأكلها أيضاً.

بحسب ما ذكره دبلوماسيون أردنيون، فإن صناعة تهريب المخدرات في سوريا لم تصبح "منظمة بشكل جيد" إلا منذ "مدة قريبة"، حيث صارت عمليات التهريب تتم بصورة يومية، ويشارك فيها نحو 200 عنصر مقسمين على مجموعتين، بعضهم يقوم بعملية المراقبة باستخدام مسيرات، وبعضهم يعمل على تشتيت الانتباه من خلال فرق مؤلفة من مسلحين يحاولون تشتيت القوات الأردنية وصرف انتباههم عن العملية. ولقد زار مسؤولون أردنيون رفيعو المستوى واشنطن منذ بدء ذلك، وقدموا إحاطات خاصة حول تعقيدات خطر تهريب المخدرات، وارتباطاتها المباشرة بقلب النظام السوري ومركزه، ودور إيران وحزب الله فيها.

العودة للوضع السابق 

لم يكن من المفاجئ أن يكف الأردن عن الإشارة إلى الصداقة الأخوية بينه وبين النظام السوري على الملأ، وأن ينصب اهتمام وزراء الدولة فيما يخص الملف السوري على الحديث حول مواضيع مثل اللاجئين وإيران، ضمن ما يمثل عودة إلى الوضع السابق. والاستثناء الوحيد هنا هو عندما واصل الأردن الدفع لإقناع الحكومة الأميركية بإصدار إعفاء من العقوبات فيما يتصل باتفاقية الطاقة التي ستعمل على تمرير الطاقة عبر سوريا، وتخصيص جزء منها لتلك الدولة (بما أن جزءاً من تلك الكميات سيمر مباشرة عبر أنابيب ليمد سجون النظام ومرافقه العسكرية بالطاقة)، ضمن أجر سوريا من هذه العملية. وهذه الاتفاقية، التي كان الغرض منها تزويد لبنان بساعة إلى ساعتين من الكهرباء يومياً، لن تفيد بشيء أكثر من دعم نفوذ سوريا في لبنان، وجعل الأسد يتبوأ مركز أي اتفاق إقليمي كبير يحظى بدعم دولي.

على الرغم من أن وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، يرى بأنه يمكن حل أزمة سوريا من خلال "منهج يعتمد على السير خطوة بخطوة" ويسعى للتعامل مع نظام الأسد ومشاركته، حيث سيقدم المجتمع الدولي لدمشق مزايا وفوائد مقابل الخطوات الإيجابية التي تقدمها سوريا عملاً بمبدأ المعاملة بالمثل، إلا أن ما يقود النهج الأردني هو الاعتقاد بأن العودة للتعامل مع نظام الأسد في الآليات الإقليمية لا بد وأن يشجع على ظهور سلوكيات أفضل من قبله، وإحباط السيئ من تلك السلوكيات. وفي الوقت الذي ينعدم فيه أي دليل يؤكد هذه الفرضية، نجد بأن هنالك قائمة لا تنتهي من الأمثلة التي ترجح نقيض كل ذلك، وذلك لأن تجربة الأردن نفسها مع العودة للتعامل مع نظام الأسد تعتبر خير دليل على أن "نهج خطوة بخطوة" لن يضمن إلا تنازلات تقدم لدمشق، مقابل لا شيء (أو ما هو أسوأ).

وبعد الاستفادة من هذا الإدراك الذي تأخر، أصبح المسؤولون الأردنيون يقولون سراً بأن نيتهم لم تكن العودة للتعامل مع نظام الأسد بشكل كامل، فكيف بالتطبيع معه؟! إلا أن تلك النبرة لم تكن نبرة المسؤولين الأردنيين الذين خرجوا ليدافعوا عن رأيهم في أواخر عام 2021، بعد تعرضهم لموجة انتقادات بسبب سعيهم للعودة للتعامل مع نظام الأسد بكل وضوح وجلاء. إذ في ذلك الحين، تم تبرير التواصل والزيارات التي تمت على أعلى مستوى مع النظام على أنها خطوات اتخذت لنشر الاستقرار في الجنوب السوري ولخلق الظروف المواتية لتسهيل عودة اللاجئين، مع تعزيز التجارة ودعمها، وتشديد أمن الحدود، وإنهاء عمليات تهريب المخدرات، والبحث خطوة بخطوة في حدود المشاركة مع الأسد والتعامل معه.

اقرأ أيضا: وزير خارجية الأردن يدعو العرب إلى "نهج تدريجي" لحل الصراع في سوريا

 

لا يمكن لتلك الحسابات أن تخطئ أكثر مما هي عليه اليوم، بعدما تبين كم كانت العواقب واضحة ولعينة. فسياسة "الورقة البيضاء" التي قدمها الملك الأردني للبيت الأبيض بشأن الملف السوري في تموز 2021، لم تتبين النقاط التي وضعتها روسيا قبل مدة طويلة بخصوص الحوار، لأنها لو فعلت ذلك كانت قد دقت أجراس الخطر. ثم إن سياسة الأردن التي تغيرت تجاه الملف السوري تعود لعام 2017 وذلك عبر عملية التفاوض والتنسيق المباشر مع موسكو، وقد استمر هذا التواصل على قدم وساق منذ ذلك الحين. ولكن، وبدلاً من كل ذلك، كان الضوء البرتقالي بانتظار الأردن وذلك بحكم الأمر الواقع، وهذا الضوء يعني: تقدم بحذر للأمام.

بعد مرور أشهر على الغزو الروسي لأوكرانيا، لم يوجه الأردن أي انتقاد لروسيا بخصوص ذلك إلا نادراً، ونظراً للعلاقة الاستراتيجية القوية التي تربط عمان بواشنطن، فإن آثار ونتائج عملية العودة للتعامل مع نظام الأسد من قبل الأردن والتي لم تدم طويلاً، أتت بمنزلة ضربة قوية للمساعي الدولية التي تعمل على الحفاظ على سياسة تهدف لخلق حالة تغيير يعمل على نشر الاستقرار والعدالة في سوريا. ولذلك تواصل الولايات المتحدة ممارسة نفوذها وبذل مواردها لإقناع شركائها الدوليين بالتوحد في صف واحد للوقوف ضد عودة الأسد إلى الحظيرة الدولية، ولكن عندما يقوم أحد حلفائها الاستراتيجيين المقربين في المنطقة بكسر هذا الطوق، عندها لا بد وأن تبدأ جدران هذا الصف بالتصدع والتداعي.

وبالرغم من كل ذلك، حصل الأردن على 10.5 مليار دولار بموجب صفقة اقتصادية عقدها مع الولايات المتحدة، وبدأ بالاستفادة من توسع مهم للتعاون العسكري مع دول عديدة بهدف تأمين حدوده مع سوريا. وعلى الرغم من أن السياسيين قد يصفحون عن الأردن بسبب ما أبداه من حسابات خاطئة في تعامله مع سوريا، إلا أن الدروس المستفادة من تلك الأخطاء يجب ألا تنسى، وذلك لأن الفكرة التي ترى بأن التعامل مع نظام الأسد لابد وأن يحمل معه فوائد ملموسة يجب أن تقابل بما يناسبها من السخرية والاستهزاء.

 المصدر: فورين بوليسي