عن الثورة السورية التي أعادت وصل الحرية بالسياسة

2024.03.21 | 03:54 دمشق

آخر تحديث: 21.03.2024 | 03:54 دمشق

عن الثورة السورية التي أعادت وصل الحرية بالسياسة
+A
حجم الخط
-A

ما تزال الثورة السورية التي نحيا في هذه الأيام في ظلال ذكراها الرابعة عشرة مخيفة وحيّة، على الرغم من تضافر مجمل القوى المحلية والدولية على إجهاضها والتخلص منها.

لا تقاس تجربتها في الواقع الميداني الذي شهد تغولا عسكريا وأمنيا ضدها، ولكن في قوة ورحابة المجال الذي أطلقته ورسّخته والذي بات حاضرا في المجال العام عبر المواقف والتمثلات والأحداث التي أحيتها وعمّمتها، بحيث باتت جزءا من ذاكرة حية ودائمة التكرار والعرض، ولا يمكن محوها وتجاهلها ولا فك ارتباطها العميق بمفهوم الحرية.

تحليل أطوار الثورة السورية وتحولاتها مهمة عسيرة وتحتاج إلى جهد جماعي، ولكن قد يكون الأكثر إلحاحا في هذه الفترة التركيز على شعار الحرية البارز الذي حكم مشهديتها وسيطر عليها، في اللحظة التي تعاني فيها منطقتنا عملية سحب منظمة لذلك المفهوم من المجال العام وفك ارتباطه بالسياسة والإدارة.

أطلقت الثورة تلك الكلمة السحرية في مواجهة موت محتوم، إذ إن ما راكمته التجربة من سطوة النزوع الإبادي والوحشي عند العائلة الأسدية المتغلبة، يؤكد أن الرد على أي اعتراض على الشكل الشمولي للسلطة سيكون وحشيا وبلا حدود.

من هنا بنى الاعتراض الذي فجرته الثورة السورية، عبر حمله مفهوم الحرية، مشهدا عريضا لا يتوجه إلى حاضر يائس وبائس ومغلق ومحاصر بالسطوة الأمنية والإرهاب العسكري، ولكن إلى المستقبل مباشرة.

الانتصار المباشر الذي حققته الثورة السورية والتي عوقبت ولا تزال تعاقب بسببه حتى هذه اللحظة يكمن في أنها نجحت مباشرة في نزع الشرعية عن النظام السوري، وجعلته منتجا تسلطيا عاريا تماما لا يمكنه الانتساب إلى عالم السياسة

كان أملا مرسوما بالدم والتضحيات ينسب إلى الحرية القدرة على الفعل وإنتاج السياسة، ويضع فعل القمع والتنكيل خارجها، وبذلك فإن الانتصار المباشر الذي حققته الثورة السورية والتي عوقبت ولا تزال تعاقب بسببه حتى هذه اللحظة يكمن في أنها نجحت مباشرة في نزع الشرعية عن النظام السوري، وجعلته منتجا تسلطيا عاريا تماما لا يمكنه الانتساب إلى عالم السياسة والإدارة والمؤسسات، وجعلت أي استثمار فيه خوضا في الوحل والجريمة لا يمكن تجميله بأي شكل.

اجتهد النظام الأسدي كما هو حال الأنظمة التوتاليتارية النازية والشمولية في ربط كل أدائه الإبادي بالشكل المؤسساتي، حتى يبدو سياقا طبيعيا وعاديا ومألوفا.

حرص على الإيحاء بالطابع المؤسساتي والانتماء إلى مجال الدولة والإدارة، وتصوير الثوار على أنهم خارج القانون ويمثلون الفوضى والاضطراب، ولكنه لم يستطع الخروج من البنية التأسيسية العائلية الطائفية العشائرية التي قام عليها حكمه، ففشلت كل محاولات المأسسة وبدت مجزرته عارية في وجه العالم.

وإذا كان العالم قد اختار إشاحة النظر عنها وتركيب بنية إجماع تربطها بالتطرف والإرهاب فلأنها فجرت في وجهه ما لا يحتمله، فقبل كل شيء كانت ظاهرة ارتباط السوريين بالمكان السوري والسعي إلى امتلاك الحق في النطق باسمه تخريبا كبيرا للمفهوم الثابت لفكرة الجغرافيا الأسدية والاستثمارات الدولية فيها، التي وصلت الأرض السورية بكل ما تنطوي عليه من مكانة وخصوصيات جيوسياسية بشخص الأسد.

لقد عمدت الأنظمة القائمة في منطقتنا إلى تمويت الشعوب بأشكال مختلفة كان الإفقار أبرزها، بحيث باتت عاجزة عن عبور الجسر الذي يفصلها عن السياسة، إذ إنه من المستحيل تكوين مشروع سياسي في ظلال الافتقار إلى أبسط مقومات الحياة.

مصالح الأنظمة قامت عموما على ترسيخ الفقر والجوع والتخلف وتحويل البلاد التي تمتلك ثروات ضخمة إلى بؤر هلاك ومخيمات بؤس، لأن أي تعديل في مستويات العيش سوف يتيح الفرصة لطرح الأسئلة والتي ستنتج تاليا السياسة بمعناها العميق والأساسي المتصل بالحرية بوصفها هدفها ومعناها.

يستذكر الجميع أن أولى إرهاصات الثورة السورية كانت مطالبات بتحسين الشؤون الاجتماعية والمعيشية، ولكن النظام قرأ فيها محاولة لإنشاء مجال يسمح بإنتاج السياسة.

ردة الفعل العنيفة كانت استجابة لذلك الرعب الدفين من السياسة الذي يسم تجربته ويشمل معه جلّ الأنظمة القائمة ويطبع ممارساتها. يذكر الجميع المشاهد المروعة لتعذيب الثوار المرفقة بعبارة "بدك حرية ولك" والتي تحاول أن تربط بين المطالبة بها والتنكيل، وتجعل إنكارها المطلق ونفي وجودها شكلا وحيدا ممكنا للاستمرار في العيش ووصفا وحيدا مقبولا للسوري.

أظهرت الثورة السورية عدوها الأسدي في هيئة الديكتاتور البدائي العاجز عن تدبير شؤون المجزرة، والذي ينتج عنفا عنيفا تافها لا يدل على السطوة بقدر دلالته على الرعب والخوف

الترويع الذي فاق الحدود كشف فشل النظام في استنساخ تجارب نظرائه التاريخيين في تدبير الإبادات، حيث كانوا يحرصون على إخراجها من العنف المباشر كونه يعد خروجا عن الانضباط والمؤسساتية، فمن المعروف أن النظام النازي كان يتجنب توكيل الشخصيات المعروفة بميلها إلى العنف بمهمات الإبادة ويعهد بها إلى شخصيات باردة حسابية وخالية من العواطف والانفعالات.

في هذا الصدد أظهرت الثورة السورية عدوها الأسدي في هيئة الديكتاتور البدائي العاجز عن تدبير شؤون المجزرة، والذي ينتج عنفا عنيفا تافها لا يدل على السطوة بقدر دلالته على الرعب والخوف، وبذلك فإن المطالبة بالحرية اتخذت هيئة تلك الدلالة وسكنتها ولم يعد بالإمكان فصلها عنها. صار العنف خاليا من القيمة والمعنى واحتل موقعه كهوية للنظام لا يستطيع العيش خارجها.

ما أطلقته الثورة السورية وما بقي منها والآيل للاستمرار يتمثل في أنها ربطت موقع السوري في الداخل وفي المنفى بعلاقته مع الحرية والتي جعلت منه كائنا غير قابل للتوظيفات والتوصيفات التي تنسب إليه من خارج هذا الموقع الأصلي، وبذلك فإن مأساة السوريين أصبحت في الآن نفسه سرّهم وعنوان نجاتهم.

الاستعصاء على التحديد والخضوع لمسميات وتعريفات واستحالة الاندماج والذوبان في المنافي وبيئاتها خلق تركيبة السوري الذي يستحضر سوريته وقصة الثورة بدلالتها على النزوع إلى الحرية على الدوام.

السوري هو علامتها وعنوانها الذي لم يعد قادرا على الوجود إلا من خلالها وعبر الموقف منها، وفي ذلك تأكيد على أن محاولات نزع الإنسانية بكل سطوتها لم تنجح في تحويل السوري إلى كائن بيولوجي. لم ينحل وجوده إلى تلك المرتبة وبقي بفضل الثورة كائنا سياسيا أو كائن السياسة الموصول وجوديا بالرغبة في الحرية.