عندما هزم موتور الياماها 100 طائرة سوخوي 35 الروسية في سوريا

2019.03.08 | 23:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يفتح أبو محمد الفلاح المُتطبّع بطباع الأرض الخشنة والهادئة، مياه الري على أشجاره، ويرتمي بعد تنهيدة معتادة على صخرة ليصنع سيجارة من علبة التبغ، ويخطف الأنظار كل دقيقة على دراجته النارية بعد أن كثرت حوادث سرقتها بشكل ملحوظ، دراجة "ياماها مية"، صاحبة الفلاحين ورفيقة سفرهم، وحلم الفتيان ليستكشفوا بها العالم، والتي كان لها الفضل في أن يؤمن السوريون بأن المنتج الياباني لا يخرب ولا يصدأ، خالداً مخلداً ليوم القيامة.

رغم الدمار الواسع الذي سببه الأسد في ذاكرتي، ومحطات السفر الكثيرة التي استنزفتها وملأتها بكل ما تريد خلال السنوات التسع الماضية، إلا أنني ما زلت أتذكّر تماماً تلك الأيام التي كان فيها كل همي أن أسرق دراجتنا النارية وأتعلم قيادتها، في الصف الثامن حسمت الأمر وانطلقت بها دون هدف محدد، بعيداً عن آخر المنازل من الحي الشمالي لمدينتي طيبة الإمام، لأجد نفسي مطارداً بأمر رئاسي من والدي من قبل سيارتين و3 دراجات نارية، لا يهم ما حصل لاحقاً، عندما أُلقي القبض علي.

مع تمرسي بقيادتها، بدأت رحلات استكشاف العالم الذي كان محصوراً قبل ذلك بمنطقة لا تتجاوز الـ 30 كيلو متراً مربعاً، ومدينة حماة فقط، التي كانت تنتهي الجولة السياحية فيها بعد وصولنا إليها بخمس دقائق، فحديقة أم الحسن والنواعير لا تبعد عن كراج السرافيس أكثر من 500 متر.

نقاشات السياسة والتحليلات العميقة لدوافع غزو أفغانستان، وحرب الخليج والجدال الذي لا ينتهي حول جمال عبد الناصر وصدام حسين، والهمسات الصاخبة حول تسيّد العلوية على كل مفاصل "الدولة السورية"

وعندما بلغ العمر منا ما يكفي لنجلس مجالس الكبار، لنسمع نقاشات السياسة والتحليلات العميقة لدوافع غزو أفغانستان، وحرب الخليج والجدال الذي لا ينتهي حول جمال عبد الناصر وصدام حسين، والهمسات الصاخبة حول تسيّد العلوية على كل مفاصل "الدولة السورية"؛ وجدت أن دراجتي لا يمكن أن تطال أفغانستان وقبر عبد الناصر، رغم أنها يابانية، لكنها من السهل أن تصل "مناطق العلوية" كما يسميها أهالي الريف الغربي للمحافظة، فبمقدور الدراجة أن تصعد "طلعة مصياف".

ومع وصولنا إلى ما بعد محردة، في مكان لم تطأه أقدامنا من قبل، أوقفنا شبان يتحدثون لهجة ثقيلة تنتهي كل جملهم بـ "مطّة" واضحة في لهجتهم، لتبدأ جلسة التحقيق كمشتبه بنا لما نرتديه من جلابيات تؤكد أننا غريبين عن هذه البلاد الجميلة. طُردنا بشكل عزز لدينا ما كنا نسمعه في جلسات الآباء عن "العلويون"، وتمضي الأيام كدولاب الياماها 100 سريعة حتى 22 نسيان 2011، يوم الجمعة العظيمة، ليتوقف بنا الزمن وتنتهي صلاحية الياماها 100 لانعدام المحروقات عن المناطق الثائرة، وعدم تمكننا من الخروج إلى خارج حدود المدينة المطوقة بعشرات الحواجز.

كان خروجي من المدينة إلى حلب، على عجالة، سرقت مني لحظات وداع دراجتي الياماها 100، التي كنت مخلصاً لها حداً مَنعني أن أستبدلها بـ "موتور البارت"، الذي غزا سوريا أرتالاً من المهربين القادمين من تل كلخ على الحدود اللبنانية، البارت الصيني الذي يفرض عليك زيارة ورشة التصليح كل شهر، والذي لم يقاوم صوته الأجش إلا قليل من المخلصين أمثالي.

منذ وصولي حلب، بدأت الدنيا تركلني من مكان لآخر، وهنا بدأت عملية تعبئة الذاكرة واتخامها مع ازدياد مواقع المسؤولية والواجب الثوري، وبدأت عملية استنزافها مع تدخل روسيا عام 2015، رسمياً وبثقل عسكري كان كافياً لأن يدمر عشرات المدن دماراً شاملاً.

قالت موسكو أن تدخلها لن يطول إلا أسابيعاً حتى "تقضي على المعارضة وجبهة النصرة"

قالت موسكو أن تدخلها لن يطول إلا أسابيعاً حتى "تقضي على المعارضة وجبهة النصرة"، ليكون كلاماً منطقياً بأن تستطيع دولة كروسيا ذات الترسانة الخارقة من الصواريخ والطائرات والبوارج ومئات آلاف الجند والجنرالات المتصدرة على صدورهم ركاماً من الأوسمة، لكن المنطق والغطرسة الروسية تحطّما أمام صمود ثلة مقاتلة محاصرة متروكة من "أصدقاء الشعب السوري" ذوي الخطوط الحمراء الشفافة التي لا يراها الأسد المدفوع روسياً إلى ارتكاب المجازر.

أسابيع روسيا التي تحدثت عنها عام 2015 انتهت قبل أيام عندما بدأ قطار "غنائم الحرب في سوريا" جولته على المدن الروسية لاستعراض نتائج التدخل الروسي في سوريا على مدار 4 سنوات.

بالعودة إلى أبو محمد الذي فقد دراجته الياماها 100 عندما داهمت قطعان الشبيحة منزله وسرقتها منه في العام الأول للثورة، كما فعلت بدراجتي، وفي حين كان أبو محمد يتصفح الفيسبوك، وجد صورة لدراجة ياماها 100 داخل قطار الغنائم، وأشعل سيجارته على أنغام "لركب حدّك يالموتور"، صديقي أبو محمد، إذا سقط النظام وأعادت روسيا لنا الدراجة فلن نختلف أنا وأنت عليها، لأنه يجمعنا ما هو أكبر من اليابان كلها، يجمعنا الإخلاص للياماها 100 أمام إغراءات البارت، ويجمعنا "وحدة الأراضي السورية، والآلام والآمال الواحدة"، وكراهية سمير نشّار لنا كعبدة الحقل.

ويمضي قطار الغنائم بطيئاً مُثقلاً بجبروت الياماها وبعار الهزيمة الذي يجرها القطار، هزيمة دولة القيصر العظمى أمام المحاربين لأجل حرية بلادهم

لا أعلم من هو أبو محمد، قد يكون "نادر شاليش" شاعر كفرنبودة المهجر في مخيم أطمة الذي "لا شاة له فيها ولا جملُ"، أو ربما قد يكون محمد عبد الوهاب الذي قدّم باسم الثائرين بياناً للعالم قال فيه "أنا إنسان مالي حيوان"، وربما قد يكون أبو محمد والد الطفل عبد الباسط السطوف الذي نادى والده "شيلني يا بابا" لأن قدميه لم تعودا موجودتين بعد وصول البرميل إلى أرض الهبيط، قد يكون أبو محمد واحداً من عشرات آلاف الآباء الذين كان وداع أطفالهم وزوجاتهم، ترفاً لا تقدمه الحرب.

فاجأني الياماها 100 بوصوله لروسيا، بعدما ظننت أنه لن يطال قبر عبد الناصر وأفغانستان، ليصل موسكو، ويمضي قطار الغنائم بطيئاً مُثقلاً بجبروت الياماها وبعار الهزيمة التي يجرها القطار، هزيمة دولة القيصر العظمى أمام المحاربين لأجل حرية بلادهم. هُزمت روسيا الباردة بحرارة دماء الأطفال والنساء المنسكبة من نحورهم بعد غارة من السوخوي 35 التي لم تكن قادرة على تدمير الياماها 100.