"سوريا الأسد".. النفخ في قربة مثقوبة

2024.04.24 | 12:47 دمشق

آخر تحديث: 24.04.2024 | 12:58 دمشق

الكاريكاتير السادس لشهر  نيسان ( بلا جدوى) 2024
+A
حجم الخط
-A

في اليوم العاشر من العام 2012 خرج بشار الأسد من جامعة دمشق بكلمة مدتها ساعة ونصف قال فيها: "البعض يتحدث عن سوريا الجديدة.. وأنا أقول لا يوجد لدينا سوريا الجديدة وإنما لدينا سوريا المتجددة"، وحينذاك كان الأسد مطمئناً بعدم سقوط نظامه بعد 10 أشهر من الثورة، ويروج لدستور جديد باعتباره حلاً كافياً لسوريا، وأعاد بشار بعد شهرين كلمة "المتجددة" وحينها كان أوباما قد رفض التدخل العسكري ضد النظام السوري.

اليوم ظهرت نتائج الفتور الدولي تجاه ثورة السوريين وتوظيف مأساتهم في مناكفات إقليمية ودولية، ودفع الجميع أضعاف التكلفة في التعاطي مع نتائج "المأساة" و"الصراع" بعد أن تركوا السبب الأول يعيث قتلاً وتخريباً، ثم كافئوه فتشجع كل مجرم حرب مستدلاً بكتالوج بشار الأسد وتجربته.

الدستور الذي روج له بشار الأسد قبل 12 عاماً تناقشه منذ سنوات اللجنة الدستورية السورية برعاية وإدارة المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون الذي اختزل الحل السياسي والقرار الأممي 2254 بلقاءات منسوخة بالكامل تتكرر كل فترة دون أي يقبل وفد النظام بتغيير حرف من دستور الأسد 2012. بيدرسون الذي قفز فوق سلال سلفه دي مستورا الأربعة الفاشلة يحض على كتابة دستور من قبل ثلاثة وفود، رغم أن هذه المهمة وفق قواعد الحل السياسي في سوريا هي اختصاص لجنة منبثقة عن مؤتمر حوار وطني بعد تشكيل هيئة الحكم الإنتقالي كاملة الصلاحيات. بمعنى آخر: تصبح سوريا "جديدة" بدون الأسد ونظامه ومن ثم يكتب الدستور وتجري الانتخابات.

رفض أوباما التدخل العسكري ضد النظام ورفض تدمير مطاراته العسكرية لحماية المدنيين ورفض إقامة منطقة آمنة في الشمال بناء على طلب تركيا، وقايض إيران بالاتفاق النووي مقابل التمدد في المنطقة، وقايض موسكو بصفقة تفكيك كيماوي الأسد. بعد أقل من 4 سنوات دخلت قوات الجيش الأميركي إلى سوريا لمحاربة تنظيم الدولة وبقيت حتى الآن بـ 900 جندي يتعرضون لهجمات الميليشيات الإيرانية التي سمح لها بالتمدد باتفاق 2015، وتمسك واشنطن العصى من المنتصف بين "قوات سوريا الديمقراطية" وأنقرة التي تصنف الأولى ذراعاً سورياً لحزب العمال الكردستاني، في حين ما يزال تنظيم الدولة الذي جُيّش لأجله 87 جيشاً؛ ينتهز الفرصة للتحرك في الصحاري السورية والعراقية.

"قسد" والميليشيات الإيرانية وداعش هي نتائج مباشرة واضحة لعدم جدية المجتمع الدولي والولايات المتحدة في الضغط على النظام السوري، فأخذوا يتعاملون مع نتائج بقائه.

ما بين دستور الأسد والمناوشات القائمة في شمال شرقي سوريا 13 عاماً مرت على السوريين دهراً أسوداً قتل فيها 231278 مدنياً بينهم 15334 بسبب التعذيب، واعتقل فيها وأخفي قسراً 156757 شخصاً، وشرد فيها قرابة 14 مليون سوري، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وبقي عدد الملايين ثابتاً لأن قوارب الموت ما زالت تبحر من سوريا ولبنان وتركيا إلى "الحلم الأوروبي"، يعوضها نقص في العدد بسبب سياسات التضييق والترحيل في دول الجوار التي ضاقت ذرعاً بـ "الضيوف والأشقاء والمهاجرين"، ونما اليمين الأوروبي يوقظ شعارات العنصرية والإسلاموفوبيا ويدغدغ مشاعر دافعي الضرائب بأمجاد مضت.

انتهت فترة استضافة السوريين في دول الجوار. يعيش 3 ملايين سوري بحذر في تركيا خشية الترحيل فيتجنبون حتى الشبهات، ويعملون ليلاً نهاراً بأجور يذهب نصفها ثمن آجار منزل عتيق ولذلك يدافع عن بقائهم أصحاب المعامل. وفي لبنان يجثم كابوس الترحيل أثقل على اللاجئين السوريين لأن الترحيل سيكون إلى مناطق النظام، وما بين حملات الاعتقال والترحيل اعتداءات جماعية تُشغل فئات من اللبنانيين عن مصائب البلاد والمسؤولين عن تدهوره.

في هذا الوقت يغذّي بشار الأسد الصراع ويصدّره خارج حدود البلاد، فانزلق الاقتصاد السوري في منحدر شبه شاقولي ويستمر، وبلغ سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار 15 ألفاً بعد أن كان 50 ليرة، فلم يعد يكفي الموظف السوري راتبه أكثر من أسبوع، ويمنع المجاعة عن السوريين حوالات المغتربين واللاجئين التي يسرق ثلثها البنك المركزي، ويفرز هذا الواقع المعيشي الهستيري خللاً اجتماعياً يظهر في أبسط صوره شيوخ وعجّز بلا معيل يسند، وغياب الشبان الذكور عن صور حفلات التخرج من الجامعة، ويكون المشهد فجاً في ارتفاع نسب الجرائم والسرقات والطلاق.

أما أزمة الطاقة فلا تدع مجالاً لا لصناعة ولا لدراسة ولا لعيش، فالكهرباء تقطع 8 ساعات وتصل ساعة في دمشق، ورفع النظام سعر البنزين 7 مرات منذ بداية العام الجاري وبلغ سعر لتر البنزين 14 ألف ليرة سورية والمازوت 12 ألف ليرة.

يختصر ما سبق ما قاله المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة في لقاء مع التلفزيون العربي: "نظام الأسد أخذ الشعب السوري رهينة".

وكشفت وثائق مسربة من اجتماع المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، أن النظام السوري مدين بنحو 50 مليار دولار لإيران، من ضمنها نحو 11 مليار دولار مقابل النفط الذي صُدّر إلى النظام السوري بين عامي 2012 – 2021، وهذه المليارات ستبقى ديناً على سوريا، لأن النظام عجز عن سداد دولار منها، وسدد بعضها بمنح إيران أراض في سوريا.

أما تصدير الصراع فيكون بتصدير الميليشيات إلى ليبيا وأوكرانيا وإفريقيا، وتهديد دول الجوار بدفعات جديدة من اللاجئين، وبشحنات المخدرات التي تعكّز على عائداتها النظام 5 سنوات، فوصلت بلاد الخليج وأوروبا، وباتت توزع أمام المدارس وفي المقاهي داخل سوريا ودول الجوار.

وبذلك دأب النظام على أقلمة وتدويل الملف السوري بعد المكاسب التي منحت له في عدة صفقات، ما كان فيها للدم السوري المسكوب أي اعتبار.

رغم كل ما سبق قررت دول عربية بميكافيلية غير مبررة تجريب المجرّب، فدعت السعودية بشار الأسد إلى الجامعة العربية في وقت كان فيه الشمال السوري يرحّل أنقاض زلزال شباط المدمر بعد أن غصت المقابر الجماعية بالأشلاء والجثامين، في حين لم تدخل شاحنة مساعدات واحدة مدة 8 أيام لأن النظام قبل الزلزال أغلق المعابر الحدودية أمام المساعدات الأممية عبر الحدود وترك معبراً واحداً فقط بعد أن وافقت الأمم المتحدة على استغلال النظام الصارخ لملف إنساني فاشترط على إبقاء المعبر الوحيد بشرط زيادة دعم برامج "التعافي المبكر" في مناطق سيطرته.

يختصر ما سبق ما قاله المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة في لقاء مع التلفزيون العربي: "نظام الأسد أخذ الشعب السوري رهينة".

نتج عن عودة النظام للحضن العربي لجنة اتصال وزارية عربية تضم مع النظام السوري الأردن ومصر والسعودية والعراق للتوصل لحل سياسي شامل في سوريا، ليتوقف عمل اللجنة في أيلول الفائت، وتشن الطائرات الأردنية غارات في الجنوب السوري ثلاث مرات ضد مهربي المخدرات والسلاح وخاضت معهم اشتباكات متكررة على الحدود.

كان النظام السوري يقتل بالرصاص والصواريخ والبراميل والكيماوي والتعذيب في أقبية السجون، والآن يقتل بالقهر والتجويع والتهجير، وينخر في البلاد حجراً وبشراً وأرواحاً ويرفع من فاتورة إعمار سوريا في حال سقوطه. ظن المطبعون أن النظام تغير، لكنه أثبت لهم بنفسه خطأهم، وبدلاً من التراجع، أعاد الأسد معايرة نهجه ضمن سياساته في التكيف.

يتعامل المجتمع الدولي مع نتائج المأساة السورية دون التطرق للمسبب الجذري القابع في قصره الجمهوري المغطى بألواح الطاقة الشمسية

انخفضت المساعدات الأممية لسوريا لمستويات تهدد الأمن الغذائي وتركت 90 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر، وتراص أكثر من 1200 مخيم في الشمال السوري يقطنها أكثر من مليوني نازح ومهجر. كانت سياسات الاستجابة الإنسانية ترسخ لبقاء المخيمات، وتهدف إلى تخفيف المأساة الإنسانية واستدامتها، بدلاً من تفكيك الأزمة والقضاء عليها، وذلك لضمان استجرار مئات ملايين الدولارات واستمرار عمل المكاتب الأممية ومنظماتها وشركائها المحليين والإقليميين والدوليين.

الاستعصاء السوري جريمة متعددة الأوجه ومتعددة الأطراف، فاستجابة المجتمع الدولي الفاترة للثورة السورية وما تبعها من مجازر وكوارث، رسّخت عميقاً في نفوس السوريين قناعة بأن "العالم كله يحمي الأسد" وزرعت شعوراً باليأس يغذيه واقع المعارضة المحبط المتمثلة بالفصائل العسكرية والسياسيين، فطرق سؤال الجدوى مدوياً وشلّ شعور الخذلان الكثير من السوريين تحوم فوقهم شكوك وهم التغيير وعقم الحراك.

شجّع هذا النهج الدولي في الفتور ثم التقاعس ثم المكافأة على مذابح في العالم كما فعلت روسيا في أوكرانيا وكما يفعل الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة

يتعامل المجتمع الدولي مع نتائج المأساة السورية دون التطرق للمسبب الجذري القابع في قصره الجمهوري المغطى بألواح الطاقة الشمسية، وتغير الخطاب الدولي المناهض للنظام السوري فلم يعد الحديث عن أزمة سياسية أنتجت كوارث اقتصادية واجتماعية، بل بات الحديث يركز على مفرزات "الأزمة" و"الصراع" و"الحرب الأهلية".

هذا المقال لا يتحدث عن "مظلومية سورية" ولا يدعو للإحباط، بل هو تذكرة بأن "سوريا الأسد المتجددة" قربة مثقوبة أتعبت النافخين وجربها الجميع أفراداً وجماعات ودولاً، وثبتت كارثية سياسات المجتمع الدولي في الملف السوري، وشجّع هذا النهج الدولي في الفتور ثم التقاعس ثم المكافأة على مذابح في العالم كما فعلت روسيا في أوكرانيا وكما يفعل الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، وأسس لشكوك بأن "الأسد محمي" وهو شك لم يعتر السوريين فقط، بل جعل لحظة الانتفاضة ضد أي ديكتاتورية ثقيلة جداً على شعوب المنطقة والعالم.

العالم ينفخ في قربة الأسد المثقوبة. والسوريون ماضون إلى كرامتهم رغم وعورة الطريق وصعوبة المبتغى، لا يشتتهم عن حلم البدايات يقظة الحاضر وتعقيد المشهد

توقف قطار التطبيع ولم يخضع السوريون نخباً وشعباً للمجتمع الدولي، ودب الشك والتململ في حاضنة النظام، وفي لحظة انعدام انتفضت السويداء بصرخات مدوية أعادت هتافات الثورة إلى الساحات والشوارع، وتقاوم جارتها درعا منذ 5 سنوات بطرائق مختلفة، وينهض الشمال السوري برتم متصاعد رغم سطوة الاستبدادات الجديدة، ويكافح اللاجئون مشاعر العنصرية والشوق للأهل والبلاد المنهكة فيراكمون العلم والمعرفة، وبلغوا برلمانات الدول المضيفة، ودفعت لوبياتهم المشرعين لسن ما يسنح من قوانين لمواصلة الضغط على الأسد ونظامه، وباتت منظمات ومؤسسات غير حكومية انبثقت عن ثورة السوريين أكاديميات تخرج الكوادر في مختلف القطاعات.

العالم ينفخ في قربة الأسد المثقوبة، والسوريون ماضون إلى كرامتهم رغم وعورة الطريق وصعوبة المبتغى، لا يشتتهم عن حلم البدايات يقظة الحاضر وتعقيد المشهد وجرعات العنف المستمرة.. إلى سوريا جديدة يمضون لا يحال بينهم وبين مطالب آذار تخاذل العالم وجحافل الغزاة.