مرّ لم يمر

2024.02.06 | 16:25 دمشق

ءؤر
+A
حجم الخط
-A

لم تدع فاجعة الزلزال مجالاً للوقت ليمر، فالصدمة المكثفة في خمسين ثانية والتي لخصت 13 عاماً من الحرب ضربت صميم الفكرة السورية بترحيل المصاب للزمن، إيماناً منهم بأن تفاصيل الحياة الكثيرة ستغسل أرواحهم وتشغل عقولهم. وهكذا المرّ لم يمر.

تأخرت الأمم المتحدة كثيراً واعتذرت لكنها فشلت في ترميم أنقاض النفوس، فزاد النازحون وتراصت الخيام، وانخفضت المساعدات ثم توقفت محاولات التعافي، والتهبت ندوب القلب يكويها الحنين لمن رحل، وتتثاقل الدنيا ببطء على من نجا، ويتبعثر السوريون مجدداً يبحثون عن دنيا أقل اهتزازاً.

كأنما دخل الجميع في كهف جديد مكحل بالسواد، ويوماً بعد يوم بدأ يخبو ذلك الوميض البعيد وتخبو معه آمال الحياة الكريمة وتنسلّ أشباح الماضي من التفاصيل، عندما لا يجد عجوز ابنه ليستند عليه ويتوضأ، وعندما تفز الأم على صرخات ابنها بعد الكابوس ولا تجد زوجها ليهدئ روع الجميع، وعندما تترك الأخت أخاها في المستشفى لتلحق بزوجها إلى مكان جديد، وعندما يستغرب الطفل اليتيم من كل هذا الحنان والقبلات الزائدة، وعندما يُقهر رجلٌ متين فقد منزله وقدميه فلا طاقة له للعمل ولا طاقة له للطلب، وعندما تعيش عائلة نازحة في ولاية تركية غير ولايتها بحذر وخوف بدون إذن سفر، أو عائلة لم تعثر على ابنها حتى الآن لتدفنه، وعندما يشتاق كل هؤلاء للموتى فلا يغنيهم عن ذكراهم كل الأحياء.

الغوص في تفاصيل التداعيات مرهق جداً، وكلما سمعت قصة ضربتك أقسى منها، فتخال أن الأكثر مأساوية لم تُحك بعد، مدفونة في خيمة يمر عليها القوم دون انتباه، أو في غرفة مستشفى لا يكسر صمتها إلا صوت الأجهزة وأنين الليل.

وأنت الآن ضعيف في عيونك خارق في عيون أطفالك، فقير في عيونك غني في عيون زوجتك، عقوق في عيونك بارٌ في عيون والديك، مستسلم في عيونك صامد في عيون أصحابك. يضربك ألم الجرح فتعض على أصابعك تكاد تمزقها كي لا توقظ النائمين. هذا قدر الرجال، يحملون الدنيا ألا تقع ويدفعون بالهموم وهم على حافة اليأس.

قال لي صديقي إن الكوارث والفواجع في زمن الهواتف المحمولة أثقل على النفوس، لأن العقل يحتفظ بصورة مفضلة واحدة لكل شخص، أما الآن وكلما استسلمت لطرقات الذاكرة وفتحت الباب تبحر في صور من فقدت تسمع صوت ضحكاتهم ومشاغباتهم وتشاهد أشكال الظفائر المحناة وأطواق الورد، وتعيد قراءة ما كتب على الجلاء المدرسي "شطورة نظيفة مرتبة"، وأنت من انتشلها من تحت الأنقاض باردة مغبرة مدماة.

شعور الخذلان يؤسس لقهر دفين في غياهب النفس، وتجنباً لذلك يكون التكافل الاجتماعي والمساعدات الأممية للتعافي والترميم والإعمار والتعويض والدعم والمساندة والمناصرة، لكن ما سبق لم يغط أكثر من خمسة في المئة من احتياجات السكن وأقل من نصف الاحتياجات الأساسية للعيش، وهذا ذنب جماعي يجب أن نعترف به ونسعى كي لا تبقى صرخاتهم صامتة، ولتصبح دموعهم أقل ملوحة، وليمر المرّ.

كلمات مفتاحية