icon
التغطية الحية

صورة الحجر والوردة.. عن المعتقل بوصفه قاموساً للّغة

2023.01.09 | 09:30 دمشق

السجون
+A
حجم الخط
-A

فضاء المعتقلات عموماً ضيِّق ويضيق إلى حد لا يستقيم معه أن نسميه فضاء إلا بالمعنى المجازي، أو على سبيل المقاربة والاصطلاح لأغراض المعاينة والدراسة والمقارنة.

وبقدر ما يضيِّق فضاء المعتقلات يضيق معه القاموس اللفظي المتداول داخله، وذلك على النقيض من القاموس اللفظي الذي يستدعيه التعبير عما تعنيه المعتقلات وما يعانيه المعتقل فيه مع مرور وتراكم وثقل وطأة الزمن، وما تنطوي عليه التجربة من ظروف مرتبطة بالقسوة والتعذيب، والإهانات المادية والمعنوية، والشحّ والعزلة، وضغط الجدران وغياب الأفق ومرض الأمل، وتراجع هوامش الأحلام، واتساع متن الكوابيس، والميل إلى الصراخ مجرّداً حين تعجز اللغة، أو الصمت منقّحاً ومدروز الحواشي بالأشواك وإبر الهواجس.

 هذا التناقض ما بين ضيق القاموس اللفظي مع تكرار إيقاعات الحياة والظروف الركيكة والمهينة والفارغة والمملة، وما بين اتساع القاموس المطلوب للتعبير عن تلك الإيقاعات، هو تناقض بدهي يشعر به جميع المعتقلين، وربما أيضاً الجلادون والسجانون بهذه الدرجة أو تلك، إلا أن الكتّاب عموماً والشعراء خصوصاً، هم أكثر من يدرك ذلك التناقض كلما فكروا في الكتابة عن التجربة.  

تستنفر المعتقلات، لدى الشاعر جوانب من قاموس لفظي كان نائماً، وتخنق قاموساً ليس هناك من حاجة له.

المعتقل والحرية هما صورة الحجر والوردة، التصحّر والخصب، الانتقام والغفران، وصورة الذكورة البهيمية والأنوثة المعلِّمة، وإذا أردنا الاختصار فهما صورة  الموت والحياة

ولكي لا يبقى كلامي نظرياً، سأزدلف قليلاً إلى تجربتي الشخصية لأقول: لم أكن قبل الاعتقال أكترث لمخزوني من الألفاظ التي لها علاقة بالآلام الجسدية مثلاً، أو بحركة السياط وهي تشهق وتزفر وتكسر كل ما في أعماق المرء من ضوابط واتساقات وتوليفات، أو بعتبات التحمّل وخطّ الانكسار، أو بالزمن وما يمكن أن ينطوي عليه من زَنَخ وصلافة وثقل دم وقرف وبهيمية ولعنات، ولا سيما حين يتعب قطار سنوات الاعتقال من الصفير، وتكبر كرة ثلج اليأس من إمكانية الوصول إلى نهاية الرحلة.

مع الاعتقال انتبهتُ إلى أن لغتي أخذت تغربل وتنخل نفسها، لتفرز أنساقاً من الكلمات والمعاني التي لم أحتج لها يوماً. كان ذلك طرفاً في مزدوجةٍ طرفُها الآخر يفضي إلى تخثِّر مفرداتنا، ذلك لأن بضع مئات من الكلمات هي كل ما يحتاجه المعتقلون في حياتهم اليومية. وإذا كان بعض المعتقلين لا يشعرون بتخثر قاموسهم أو لا يرونه أمراً خطيراً، فإن الأمر خطير جداً لدى من لهم علاقة بالكتابة.

في الواقع هناك سبيلان لإبقاء القاموس اللفظي حياً وحاضراً ومتجدداً، السبيل الأول هو القراءة إن توافرت الكتب، ثم الذكريات وسردها أمام الآخرين، وكذلك الحوارات في شتى الأمور بين المعتقلين، والسبيل الثاني هو التواصل مع الخارج بالحواس الخمس وبكل السبل الممكنة.

مرة سألني أحد أصدقائي عن جدوى مخاطرتي بخرق قوانين السجن عبر التسلق إلى إحدى النوافذ العليا من أجل نظرة خاطفة إلى الخارج. قلت:

  • أريد إيقاظ لغتي.
  • ما علاقة لغتك بالنافذة؟
  • سأتسلق الآن وألقي نظرة، ثم أعود لأعدد لك مئات الكلمات التي لا نستخدمها في السجن، وبالتالي يمكن أن تموت تلك الكلمات أو ننساها.

حين نزلتُ سألني عن النتيجة، فأخبرته أنني في تلك النظرة رأيت الكثير الكثير من مفردات الطبيعة، غير أني سأكتفي بالحديث عن شيء واحد مما رأيت هو الجبل، ثم رحت أسرد له مشاهداتي وتقديراتي وانطباعاتي وقناعاتي عن حجم الجبل مقارنة بجبال أخرى، وعن ألوان التربة ما بين أسفله ومنتصفه وأعلاه، وعن شكل إشرافه على الوادي الذي يتوسطه طريق معبّد ومزدحم بالسيارات، وعن تقديري للمسافة التي تفصلنا عنه، وعدد الأسوار وتنوّعها من الجدران الخرسانية إلى الأسلاك الشائكة وحقول الألغام وأبراج الحراسة، وحدّثته مطولاً عن انخماصات الجبل وامتلائها بالظلال، وعن قمته الصخرية التي تشبه نحتاً فرعونياً، ثم انتقلت إلى الحديث عن سفوحه المتموجة والأشجار وأشكالها وأعدادها واختلاف توزّعها، والطيور التي كانت تتجاوزه إلى جهة الغرب على عكس الغيوم المتجهة شرقاً، كما حدثته عن الشعاب الصاعدة من أقدام الوادي والنازلة من أكتاف القمة، وما أثارته رؤية الجبل في داخلي من معاني الثبات والرسوخ والقوة وأغنية فيروز "يا جبل اللي بعيد.. خلفك حبايبنا" والرياح والغبار والتصدّع وآيات قرآنية وبدوي الجبل وبعض ما قرأناه في كتب الجغرافيا عن عوامل الحتّ والتعرية، ويا جبل ما تهزّك ريح، وهكذا وهكذا..

هزّ صديقي رأسه مراراً قبل أن يقول: بعض ما حدثتني به يكفي لأقتنع بفكرتك وأقنع غيري بها.

 ذلك هو المعتقل بوصفه قاموساً لغوياً ضحلاً، علاوة على كونه زمناً مضادّاً، ومكاناً معادياً إن لم أقل عدوانياً، بحضوره المادي الصلب والفظ والافتراسي. بالمقابل تحضر الحرية، كنقيض للمعتقل، برحابة وكرم قاموسها اللغوي العميق الصافي، وبكامل زينتها ورهافاتها وظلالها وشموسها وأقمارها.

المعتقل، وإن شئتم السجن، والحرية هما صورة الحجر والوردة، التصحّر والخصب، الانتقام والغفران، وصورة الذكورة البهيمية والأنوثة المعلِّمة، وإذا أردنا الاختصار فهما صورة  الموت والحياة. وعلى المعتقلين، وربما الأحرار أحياناً، أن يوازنوا أنفسهم فوق هذا الصراط، حيث المكان يفضي إلى ما يشبه البئر، والزمان إلى ما يشبه التيه.