icon
التغطية الحية

تسليع الفن.. بين الضرورة الاقتصادية والانحدار الإبداعي

2022.06.12 | 21:35 دمشق

tsly_alfn.jpg
+A
حجم الخط
-A

 

الطبيعة مصدر الجمال، والفنون محاولة بشريّة لصنع الجمال، لذلك تحاول الفنون محاكاة الطّبيعة. ولأن الإنسان يحاول تسخير الطبيعة والفنون لصالحه، تدهورت الطبيعة وتسلّعت الفنون لتثير جدلاً واسعاً داخل مختلف الأوساط.

فبينما يرى فريق أن التسليع وسيلة لتطوير الفنون، يعتبره آخرون بداية لانحدارها وتفريغها من محتواها الإنساني. وبين هذا وذاك تبرز قيمة النقد في إحداث التوازن، فهل يؤدي النقد الوظيفة المنوطة به؟ وما النقد القادر على أحداث هذا التوازن القلق؟

الرأسماليَّة والفنون

عندما تراكمت ثروات الرّأسماليّين، بدأ اهتمامهم بالفنون لإشباع رغباتهم بالتّباهي، والوجاهة الاجتماعية، وبحكم سطوة رأس المال، بدؤوا يصنعون فنانين على مقاييسهم المادية وذائقتهم الفنية، فلم تعد الموهبة والثّقافة ضرورة لصناعة الفنان، فالنجومية صناعة يتحكم بها رأس المال، وغالباً ما تنتج هذه النجومية المزيفة أعمالاً هشّة لا ترتقي بذائقة الجمهور، لكن قوة الدعاية الرأسمالية  لتلك الأعمال؛ جعلت ذائقة الجمهور تنحدر لمستواها.

ومن هنا بدأ تسليع الفنون الذي هو عبارة عن عملية "تحويل كل ثقافة فكرية أو نشاط إلى سلعة تجارية، لها قيمة تخضع لقانون السوق الاستهلاكي، وتهدف إلى الربح المادي"[1]. وهذا ما يثبته الواقع، حيث نجد الكثير من رجال الأعمال أصبحوا يتاجرون بالأعمال الفنية ويعتبرونها استثماراً مربحاً تحت مسمى "رعاية الفنون"، وبذلك تصبح الأعمال الفنية أرصدة مالية، أي أن القيمة الجمالية للفن استبدلت بقيمة نقدية، وأصبحت خاضعة لقوانين الاقتصاد.

"أيَّة عبثيَّة هي تلك التي تريد تغيير العالم عبر الدعايَّة" هوركهايمر وادورنو.

أصبحت قيمة السّلع تتجاوز قيمة الانتفاع بها، لتصبح معبرة عن قيمة الشّخص بالمجتمع، ومن هنا ارتبط الفنّ بالموضة فأصبحت مجلات الموضة تنشر مقالات عن الفنون، وكذلك بدأت الدّوريات الفنيّة تنشر إعلانات لشباب يروّجون لشركات الأزياء، لقد أصبحت فترة الشّباب تحمل صفة تسويقية، ومن الملاحظ أن الفنّانين يحافظون على صفة الشّباب لفترة زمنية طويلة، "رغم معاناتهم أثناء جلسات التّصوير، بحكم تقدمهم بالعمر، وضرورة المحافظة على صورة الشباب المزيفة بذهن المشاهد"[2] ولدينا في العالم العربي أمثلة كثيرة على مثل هؤلاء الفنّانين الذين يحاولون الظهور دائماً بمظهر الشّباب الدّائم.

 

حنن.jpg

النّقد الأيديولوجي لتسليع الفنون

والتسليع يتجاوز الفنون، إذ يرى عبد الوهاب المسيري أنّ العالم ككل متجه إلى حالة السّوق، حيث يسود منطق الأشياء، وهذا ما يطلق عليه مصطلح "التشيؤ" أي تحول العلاقات الإنسانية إلى علاقات بين الأشياء ثم يربط المسيري كلاً من مصطلح التّسليع والتشيؤ بمصطلح آخر وهو الوثن[3]، فالمولات الضخمة "أصبحت أشبه بدور العبادة، إنها كاتدرائيات منتشرة بجميع أنحاء العالم، حيث يتوحّد البشر أمام الدين الجديد، أيقوناته الماركات العالمية، وله شعائره المقدسة"[4].

 كما يرى المسيري أن هناك علمنة شاملة للفنون من خلال فصل القيم الجمالية عن القيم الإنسانية والأخلاقية، فالعمل الفني تعبير عن رؤية صاحبه، ومن هنا يبتعد العمل الفني عن الواقع الإنساني، ويتّجه نحو التّجريد وتآكل الشّكل، فتظهر أعمال فنية تشير إلى ذاتها فقط، ولا تشير إلى أيّ واقع خارجها[5].

ولعل ظاهرة تسليع الفنون على وجه التحديد، قد استفاضت كلاً من الناقدين أدورنو وهوركهايمر في شرحها عبر كتابهما المشترك جدل التنوير، حيث بيّنا كيفية تحويل الإنتاج الثقافي إلى تجارة رابحة، وكيفية السيطرة التدريجية على الجمهور من خلال خلق الحاجة لديه ثم تلبيتها بالسلع، أي إعادة خلق المجتمع ليتناسب مع السلع التي يتم إنتاجها.

فالرأسماليّة بحسب النّاقدين حولت الإنسان إلى كائن جشع، يركض خلف التّملك، وتحويل كلّ موارد الطبيعة إلى سلع تباع وتشترى، وضمن هذه البيئة يصبح المبدع هو الآخر كائناً نفعياً يتحرك وفق بوصلة السّوق وليس انطلاقاً من بواعث الإبداع الفني.

نقد النّقد الأيديولوجي لتسليع الفنون

يبقى تسليع الفنون من القضايا الحسّاسة، والنّقد الأيديولوجي لها سينتج حلولاً جاهزة، ومعلّبة بالأيديولوجيا الّتي ينطلق النقد منها. فنلاحظ أن أدورنو وهوركهايمر تناولوا تسليع الفنون من زاوية توجهّهما الماركسي، وفي مثل هذا الصراع الأيديولوجي ضد الرأسمالية قد يصاب الناقد بعمى جزئي يفقد الناقد صفة الحياد، فصناعة الثّقافة عموماً أصبحت مرتكزاً تعتمد عليها اقتصاديّات الدول وهي مصدر لتوظيف ملايين البشر.

إضافة إلى ذلك، فإن النّقد الماركسي يحتوي على تناقضات كبيرة كونه ينطلق من مصلحة الفقراء نظريّا، لكنه بالوقت نفسه يحرم الفقراء من تعميم الثّقافة، فاللّوحات الفنية -على سبيل المثال- مرتفعة الثمن، لا يمكن أن تمتلك إلا من قبل العائلات الغنية، لكن بفضل النّسخ لهذه اللّوحات بإمكان أي عائلة امتلاك نسخ منها.

 

hqdefault_0.jpg

النّقد المطلوب للمحافظة على الفنون

إذا؛ فالنقد المطلوب لتطوير الفنون هو النقد الفني غير المؤدلج، الذي يرفع ذائقة المتلقي ويعمل على تطوير العمل الفني، وهو الضمانة شبه الوحيدة التي تكفل الاستفادة من رأس المال في تطوير الفنون دون التأثير في جوهرها، لكن ما نلاحظه أن هذا النوع من النقد غائب نتيجة "عجز تنظيري وجمود أكاديمي"، بحسب ما أورد طلال معلا في كتابه بؤس المعرفة في نقد الفنون البصرية العربية، حيث يؤدي هذا العجز والجمود إلى تقليل فرص تطوير الأدوات المعرفية للنّقد باعتباره قيمة موازية للمنتج الفني.

فالحاجة للنّقد اليوم أصبحت ضرورة كبيرة رغم صعوبته لتعقيدات كثيرة؛ لعل من أهمّها تسليع الفنون، إضافة إلى وسائل التّواصل التي جعلت الفن يومياً ومجانياً، ومبتذلاً أحياناً. وهذه العوائق التي تواجه النّقد يختصرها النّاقد مازن عصفور بـ "تزايد الفجوة القائمة بين الفنان والمتلقي من جهة، وبين النّاقد والمتلقي من جهة أخرى"، ونتيجة لذلك يميل النّقد إلى توصيف الفن أكثر من تناول العمل الفني نقدياً، والنتيجة تسطيح ذوق المتلقي وعدم المساهمة بتطوير الفنون.

إشكاليات النّقد الفني

النّقد الأدبي متبلور ومتطوّر؛ بينما نقد الفنّ يمكن أّن نعتبره لا يزال بمرحلة التأسيس، ومن الملاحظ أن عدد النّقاد المتخصّصين بالنقد الفني قليل جداً، كما أن عدد المجلات والصّحف المتخصّصة به محدود أيضاً، وهذا دليل على أنّ "هناك تمركزاً عربياً حول فنون القول وتهميشاً كبيراً لفنون العين والصورة" وفق النّاقد الفني فريد الزاهي.

النقد عموماً يعاني من إشكاليات كثيرة؛ لعل أبرزها يكمن في أنه إما أن يكون نقداً أكاديمياً مليئاً بالمصطلحات التخصصية الغريبة على المتلقي العادي، أو أن يكون بشكل آراء انطباعية يغلب عليها الطّابع الصّحفي، وهذا نقد انطباعي وليس فنيّاً، علماً بأن الآراء الانطباعية مقدمة مهمة للنّقد الفني.

وبالرغم من كل إشكاليات النقد الفني، فإن أهميته تزداد لإحداث التّوازن بين تطوير الفنون عن طريق تسليعها، وبين المحافظة عليها كقيمة جمالية ترفع الذّوق العام، لذلك فتجربة الكتابة النّقدية تحمل على عاتقها مسؤولية أخلاقية، فإذا كان النّاقد على مستوى هذه المسؤولية، فإنه يصل لمستوى الفنّان، وبذلك تصبح الدراسات النّقدية جزءاً لا يتجزأ من العمل الفني، حيث توثّق طريقة تلقي العمل الفني وفهمه وتحليله وتأويله.

 


[1] الاختراق الرأسمالي وتسليع الفنون التشكيلية- ندى عايد يوسف- جامعة البصرة "كلية الفنون الجميلة"
[5] كتاب العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة- المجلد الثاني، صفحة 146