عصر الرأسمالية الرقمية

2021.09.12 | 06:18 دمشق

a2_885.jpg
+A
حجم الخط
-A

في زيارة قمت بها مؤخرا إلى إسطنبول، وصلت إلى هاتفي رسالة تقول: "إن كنت تود مفاجأة أهلك في مدينة حماة بباقة ورد، فيمكنك الاتصال على هذا الرقم. كلفة الباقة 150 ليرة تركية. أهلا بكم في إسطنبول".

لم يكن صعبا تخمين الطريقة التي عرفت بها الجهة المرسلة أنني أتابع أخبار حماة دائما، فالتطور التكنولوجي المعاصر جعل الفرد منا صفحة مكشوفة أمام الشركات. وقد كتب الكثير عن هذا التطور، وعن التغييرات التي سيسهم بها في صياغة شكل العالم، وطرق وعينا وإدراكنا إياه. ولكن كل تلك الكتابات تبدو شبيهة إلى حد بعيد بالحكاية التي تتحدث عن أشخاص يحاولون وصف السيارة لشخص لم ير في حياته إلا الحصان. فحتى الآن نحن عاجزون عن تخمين التأثير الذي سيتركه عصر المعلومات والإنترنت في أسلوب حياتنا وطرق تفكيرنا، وما ستقوم به التقنية الرقمية من تغيير في طرق العمل.

تقوم النسخة الرقمية من الرأسمالية على استغلال المتوقع من سلوكنا ونمط حياتنا اليومي، والذي تستخلصه من خلال تتبع خطواتنا اليومية من البيت إلى العمل فالسوق.. إلخ

عادة، ما ننظر إلى الثورة المعلوماتية التي نعيشها اليوم على أنها ثورة تقنية، لا علاقة لها بالنظام الرأسمالي، ولا بآليات اشتغاله، إذ ينحصر تفكيرنا بأن ما نواجهه من برامج وتطبيقات ما هو إلا نتاج تطور الخوارزميات، ولكن الحقيقة المستترة أننا نقف أمام نمط جديد من الرأسمالية، فبعد رأسمالية الإنتاج الصناعي، واقتصاد الخدمات، نسير اليوم خطواتنا الأولى في عالم الرأسمالية الرقمية. ففي عصر جوجل، وفيسبوك، وتويتر، تواجه البشرية نسخة متحولة من الرأسمالية، استطاعت أن تستثمر التقنية لأهدافها الخاصة. فهذه الشركات العملاقة تقدم خدمات مجانية تتمكن بواسطتها من مراقبة سلوك المشتركين والمستخدمين. فما تقوم به التكنولوجيا المعاصرة هو تحويل التجربة البشرية إلى سلوك رقمي، يهدف إلى تغذية الذكاء الصناعي بما يمكن أن يقوم به الفرد الذي يتحول سلوكه المتوقع إلى سلعة تباع للشركات التي تبني خططها ومشروعاتها على هذا السلوك. واحد من الأدلة الكثيرة أنه بعد أيام من انطلاق لعبة البوكيمون التي أشاد اللاعبون بها، نظرا لما تحمله من إثارة تتمثل في التوجه من العالم الافتراضي إلى العالم الواقعي، صرح مصممو اللعبة أنهم يبيعون مواقع البوكيمونات الجذابة لشركات مثل ستاربكوس وماكدونالد. كان اللاعبون يظنون أنهم يلعبون لعبة مثيرة، ولكن الحقيقة أن اللعبة كانت توجههم إلى أمام أبواب ستاربوكس وماكدونالد. لقد تحول صائد البويكمونات إلى سلعة.

بهذه الطريقة، تقوم النسخة الرقمية من الرأسمالية على استغلال المتوقع من سلوكنا ونمط حياتنا اليومي، والذي تستخلصه من خلال تتبع خطواتنا اليومية من البيت إلى العمل فالسوق.. إلخ. يتحول المجتمع وفق هذا النمط إلى مجموعتين متمايزتين: مجموعة تراقب، وهي مجموعة غير معروفة وغير معلومة لعموم الناس، ومجموعة الأشخاص المراقَبين. لهذا الأمر نتائج واضحة على توزع القوة في المجتمع، فالخلل في المعرفة يترجم إلى خلل في القوة، يأتي لصالح أولئك الذين يملكون أدوات المراقبة. وهذا يقع خارج آليات المراقبة التقليدية التي تبقيها الدول الديمقراطية خاضعة لسلطة الهيئات التشريعية.

لقد طورت الشركات العملاقة أشكالا جديدة للكشف عن المعلومات التي يحرص المستخدم على إبقائها خاصة به، ولاستنتاج معلومات شخصية لا يود مشاركتها مع الآخرين، كالصفحات التي يتابعها في الفيسبوك، ومدن إقامة الأصدقاء، ومحتوى ما يشتريه عبر النت، والمعلومات الشخصية، وكلها معلومات تحلل وتجمع في حزم، ثم يعاد بيعها لشركات أخرى..إلخ.  بهذه الطريقة تقوم الشركات الرقمية بجمع هذه المعلومات وتحليلها، ومن ثم تتوقع السلوك المترتب عليها. ومن هنا نشأ الإعلان الموجه، فهو يستهدف شريحة معينة: مدينة، بلدا، فئة عمرية، متكلما بلغة معينة داخل بلد آخر، كما في حالة الإعلان الذي وصلني في إسطنبول. لقد بدأ عصر الرأسمالية الرقمية مع جوجل، ولكن الشركات الأخرى سرعان ما حذت حذو جوجل، فقد اكتشفت تلك الشركات أنها تجلس على منجم ضخم من المعلومات التي يمكن أن تبيعها. فشركة مثل فيسبوك تحتفظ أو تعرف الكثير من الأسرار الخاصة بنا: مدن ولادتنا، هواتفنا، المنطقة الجغرافية التي ندخل منها إلى حسابنا في الشركة، رقم الجهاز الذي نستعمله، طرق تنقلنا، وكلها معلومات يمكن تحويلها إلى سلعة تباع للمشترين.

إن ما يجري الآن من صراع بين الشركات العملاقة شبيه من حيث المبدأ بلحظة بداية الاستعمار الغربي للعالم، ولا سيما مع اكتشاف أميركا

إذا كانت الرأسمالية التقليدية هي مصاصة دماء تتغذى على العمل، فإن الرأسمالية الرقمية مختلفة عنها، لأنها تتغذى على التجربة البشرية؛ فمشاعرنا وأجسادنا وأفكارنا تبدو، اليوم، أرضا بكرا على نحو ما كانت الطبيعة، بجبالها وأنهارها ومحيطاتها وغاباتها، قبل أن يخضعها العصر الرأسمالي لآليات السوق. ولهذا نحن أمام لحظة تحول لم تعد فيها الموارد الخام هي مصدر الثروة التي تتنافس عليها الدول الرأسمالية الكبرى؛ فالذكاء الصناعي غدا موردا بديلا يحتاج إلى توظيف جيوش من العلماء والتقنيين لاحتلال هذه الأرض البكر. وليس من باب المبالغة القول: إن ما يجري الآن من صراع بين الشركات العملاقة شبيه من حيث المبدأ بلحظة بداية الاستعمار الغربي للعالم، ولا سيما مع اكتشاف أميركا، وخصوصا مع التنافس "الاستعماري" على هذه "الأرض البكر"، وهو تنافس بدأت تتضح معالمه في الآونة الأخيرة.

قد يبدو الحديث عن استثمار سلوكنا من قبل الشركات ترفا لمجتمع مثلنا، يعاني القتل والتدمير واحتمالات الزوال. لكن الصورة أكثر سوادا مما تبدو  عليه في الظاهر، إذ إن استجابة الأنظمة الشمولية لهذه التغيرات التقنية سريعة، فقد بدأت أنظمة التعقب في إقليم شيناجيانغ الصيني ذي الأغلبية المسلمة بالتجسس على الأفراد من خلال استعمال المفردات الدينية في مراسلاتهم ومحادثاتهم وتحركاتهم اليومية بالقرب من المساجد، ومراقبة سلوكهم السياسي، الأمر الذي يتيح لأجهزة الأمن منع الأشخاص لا من مغادرة مناطقهم ومقاطعاتهم إلى أمكنة أخرى فحسب، وإنما من دخول الأمكنة العامة كالمستشفيات والبنوك والحدائق العامة ومراكز التسوق أيضا، من خلال أنظمة رقمية يجري فيها التعرف إلى وجوه الأشخاص المطلوبين وأصواتهم..إلخ.

قالت العرب قديما: إن المعاصرة حجاب، لأنها تحول دون رؤية الصورة بكامل تفاصيلها وأبعادها. ولعل هذا يصح كثيرا على التغير الذي يشهده عالمنا المعاصر، فهو أحد أعمق التحولات المعرفية على الإطلاق. تبقى أمام الفرد في هذه اللحظة أن يحاول استشراف ما تسمح له زاوية الرؤية بملاحظة التغيرات السريعة في ظل عالم متبدل، مع أن هذا الإدراك غالبا ما يعجز عن فهم النتائج المترتبة على ما يجري أمامه.

إن ما نراه اليوم من تطور تقني يشبه إلى حد بعيد لحظة اكتشاف آلة الطباعة التي أسهمت لاحقا في تقويض سلطة الكنيسة الكاثوليكية، وبزوغ الثورة العلمية، ونشوء أنواع أدبية جديدة..إلخ، أو هو مماثل لمرحلة الطفولة عند الكائن البشري. ترى ما الذي يخبئه هذا الطفل عندما يصبح شابا؟