icon
التغطية الحية

الطوفان الأخير

2023.03.02 | 10:01 دمشق

مهاجرين
(اللوحة: عمرو علاء)
+A
حجم الخط
-A

تتحدث الأساطير التي سيؤلفها الناس في المستقبل عن كائن خرافي له معدة لا تمتلئ ولا تشعر بالشبع، كائن على هيئة بحر شاءت التقادير أن يكون اسمه "البحر الأبيض المتوسط".

كانت الحيتان في هذا البحر تعاني من سكرات الجوع والمرض والتلوّث، ولكن فجأة حدث على سواحله الجنوبية والشرقية ما يشبه الزلازل، فترنحت العروش، واصطفقت المجازر والمقابر والنعوش، وصار الناس يهربون من موتٍ معجِّل إلى موت مؤجَّل، ومن موت حتميّ إلى موت احتماليّ.

مات خلق كثير قنصاً وقصفاً وتسمُّماً بالكيمياء وتعذيباً في السجون والمعتقلات، وهناك من ركبوا البحر بسفن وزوارق مثقوبة النوايا ومنذورة للرياح والأمطار والهواجس والأنواء، فغرق منهم ما لا يعلمه إلا الله، ومات ممن بقي على البَرّ أضعافا مضاعفة وتتضاعف باستمرار، كما لو أنها محكومة بقوة عطالة لا نهاية لها، ما جعل المنظمات الدولية تتعب أو تملّ، وتتعطَّل عدَّاداتها قبل أن تصل أعداد القتلى والغرقى بضع مئات من الآلاف، ممن ازدراهم البحر أو لفظتهم الصحاري على امتداد السواحل الجنوبية والشرقية، غير أن حيتان تجارة الدم والأسلحة والأوبئة والأديان والمذاهب انتعشت على البرّ الجنوبي والشرقي، كما انتعشت الحيتان في ذلك البحر، إذ فوجئت بأفواج من الغرقى، تشدُّها أفواج، وتدفعها أفواجٌ باتجاه الشمال، ولكنها تتساقط في كمائن اللجّ وأفخاخ المصادفات وشهيق القضاء والقدر الذي لا زفير له ولا محطات.

وعلى الرغم من كل ما للسواحل الشمالية، الجميلة والآمنة والخصبة، من حدود وأسلاك شائكة ودوريات عسكرية مؤلَّلة ومدجَّجة بالأوامر والأسلحة والمناظير والكاميرات وصمت المراقبين، إلا أن هناك آلافاً مؤلفة لم تيئس ولم تغرق، ولم تتوقّف رغم الكثير الكثير مما وطئته أقدامها من حراشف وأشواك وإبر، حتى وصلت إلى بلدان تُدعى اليونان وإيطاليا ومقدونيا وهنغاريا وصولاً إلى ألمانيا والنمسا والسويد وهولندا.

صار الهاربون من الموت الحتمي في الجنوب والشرق يحتاطون لمواجهة الموت المحتَمَل على الشواطئ الشمالية، فراحوا يبيعون ما يملكون، ويستدينون ما يستطيعون

كثر التوحّش في بلدان جنوبي وشرقي المتوسط، وكثرت مخاوف حكومات بلدان الشمال من تلاطم أمواج اللاجئين إليها، فشدَّدوا القوانين والحراسات والدوريات البحرية والجوية، وحين لم تجدِ نفعاً بدؤوا يخرقون قوانينهم وأخلاقهم، فسمحوا لحراس حدودهم بممارسة شيء من التهديد والتخويف، ثم بشيء من العنف، ثم بإنشاء مراكز لجوء لها وظائف تأديبية غير مرحِّبة، وغالباً طاردة ، وقد وصل الأمر أخيراً إلى الصدِّ والمطاردة وإطلاق النار والاعتقال والتعذيب.

صار الهاربون من الموت الحتمي في الجنوب والشرق يحتاطون لمواجهة الموت المحتَمَل على الشواطئ الشمالية، فراحوا يبيعون ما يملكون، ويستدينون ما يستطيعون، ليس فقط لتأمين المبالغ الخيالية التي يطلبها المهربون عن كل شخص، وإنما أيضاً لشراء مسدسات وبنادق يدافعون بها عن أنفسهم في حال تعرّضت حياتهم للخطر من قبل مجموعات حماية الحدود في تلك البلدان.

تأزَّم الوضع كثيراً في بلدان الشمال، والناس الذين كانوا ضد توحّش حكوماتهم في مواجهة اللاجئين، صاروا يتناقصون، ويضيقون ذرعاً بحكوماتهم وباللاجئين، فكثرت السعالي والأخاطب والطحالب في الإعلام والسياسة، وانغرست في لحم حياة الناس خطاطيف لها أول وليس لها آخر، فانتعشت الكراهية والعنصرية، وانقسم السكان الأصليون على أنفسهم، وانقسم اللاجئون، وحدثت في الداخل وفي المحيط تحرُّشات واشتباكات وحروب كبيرة وصغيرة، فصارت الشواطئ راجمة ومرجومة ورجيمة، والأمطار أحماضاً كاوية، وصارت البروق سياطاً تسلخ الليالي عن جلودها، وتكوي الأبصار والبصائر.

كان أصحاب اليمين من اللاجئين، يعضدون أصحاب اليمين من أحزاب الشمال.  وقد استمرّت الأمور على هذه الحال بضع سنوات، ويقال بضعة عقود، وعلى حين غرغرة لا يحتملها جدولٌ ولا نهرٌ ولا بحرٌ ولا محيط، انهارت الحكومات واحدة بعد أخرى، فعمَّت الفوضى وتسيَّدت، وازداد تبييت النوايا، وتهريب المخدرات والأسلحة، وتعرّضت المرافق العامة للتهليل والتصليب، ثم عمَّ الخراب.

لم يعد شمالي المتوسط قادراً على التقاط أنفاسه، وبالتالي لم يعد لدى طغاة الجنوب من يثبّتهم على عروشهم، أو يقدِّم لهم ما يشدّ أزراً أو يقيم أوداً، فألقوا بأنفسهم وبحاشياتهم بين فكَّي "البحر الأبيض المتوسط" من جهة الجنوب والشرق، وألقى اللاجئون وبعض السكان الأصليين بأنفسهم من جهة الشمال، وفي عرض البحر، بعيداً عن الحدود الإقليمية لجميع بلدان الشمال والجنوب، التقت الجموع، فهاجت مغاليق البحر ومفاتيح أسراره وماجت، ثم انكسفت الشموس والأهلَّة والنجوم والصلبان، وانخسفت الأكتاف والحواشي والأكناف والقيعان، وانزلقت البلدان من الجنوب ومن الشمال إلى الطبقة الأولى من الأعماق، ثم الثانية والثالثة والعاشرة والعشرين، لتسجِّل الأساطيرُ قصة الطوفان الأخير، ولكن من دون نوح هذه المرة، لأن الأساطير أنجبت نوحاً واحداً ثم صارت عاقراً.