icon
التغطية الحية

"أن يعضّك حصان خير من أن يعضك كلب"

2023.01.22 | 08:44 دمشق

شعر
عبد الله الحريري
+A
حجم الخط
-A

قيل إن حصان عبد العزى الكلابي عضّه في وجنته تاركاً فيها شبه الحلقة، فسميّ المُحلّق الكلابي. وقد كان فقيراً معدماً، فما خطب من بناته الثمانية أحد. وكان للشاعر الأعشى أيام يوافي فيها سوق عكاظ كل عام، فأشارت زوجة المحلّق عليه بأن يستضيف الأعشى في يوم قدومه قبل أن يسبقه إليه أحد، حتى وإن ذبح له ناقته الوحيدة. وقد فعل، فما كان من الأعشى في اليوم التالي إلا أن أجلسه إلى جواره في السوق وامتدحه، فما قام وفيهنّ واحدة إلا مخطوبة.

وقيل إن الأعشى أنشد كسرى قصيدته تلك، وكان مطلعها:

"أَرِقْتُ وما هذا السُّهادُ المؤرِّقُ

وما بيَ من سُقْمٍ وما بِيَ مَعْشَقُ"

 فلما فُسّرت له قال: إن كان هذا سهرٌ لغير سقمٍ ولا عشقٍ، فما هو إلا لصّ!

في هذه القصة وجه من وجوه الدعاية بما تعنيه من تأثير على الرأي، فهي ترويج لكاسد وإقناع بغير مرغوب، أعطاه صاحب الأغاني باب "الشعر واسطة للزواج"، إذ لم تعرف العرب (لا نجزم بذلك بالنسبة للعرب البائدة) فنون الدعاية كغيرهم من حضارات مصر وما بين النهرين، بل اعتمدوا الشعر لذلك، فكتبوه بماء الذهب وعلقوه على جدران الكعبة. يحسن هنا ذكر قصة مسكين الدارمي مع صديقه بائع الخُمر التي ألهمته إنشاد: "قل للمليحة في الخمار الأسود...". تشي القصة عن ميل لابسات الأخمرة قديماً للملوّن منها، فهل كان لهذه القصيدة دور في تغيير أذواقهن وجنوحهن للسوداء منها حتى أيامنا هذه؟

نحن شعب يعرف مصلحته عن ظهر قلب، تكفينا منظفات أوريس وعلكة منطاد ومحارم ديمة... لكن إذا نظرنا بجدية وحيادية لها نجد أن الإعلانات على شاشات التلفزيون الرسمي وشبه الرسمي في سوريا نجحت في حفر آثارها في ذاكرتنا

على الرغم من اختلافهما إلا أن ذكر الدعاية يقترن بالإعلان، خصوصاً وأن لا دعاية (بمعناها السياسي والتأثير في الرأي) كانت في سوريا الجميلة؛ كلها إعلانات ترويجية لما هو معروف أصلاً في سوق محدود الخيارات، مضافة على هامش نشرات التوجيه السياسي في التلفزيون والمدرسة والجامعة وأماكن العمل. إذا كنا مُوجَّهين لهذه الدرجة فما هي حاجتنا للدعاية؛ نحن شعب يعرف مصلحته عن ظهر قلب، تكفينا منظفات أوريس وعلكة منطاد ومحارم ديمة... لكن، إذا نظرنا بجدية وحيادية لها نجد أن الإعلانات، على شاشات التلفزيون الرسمي وشبه الرسمي في سوريا، نجحت في حفر آثارها في ذاكرتنا. من منا لا يتذكرها بشخوصها وكلماتها؟ وهذه هي الغاية المنشودة: "من بالك اُوعى تقيما".

لكن، لا يتفاجأ أحد أن قصيدة كتبها الشاعر الأميركي روبرت فروست عام 1916 بعنوان (الطريق الذي لم يُسلك) تستخدم في عام 2008 من قبل شركة فورد للترويج لسيارتها في نيوزيلاندا، "لم يُصرَّح باسم القصيدة وصاحبها في الإعلان؛ إذ يُتوقّع من الجمهور معرفةُ القصيدة من دون مساعدة. لكن أن يميِّز أي جمهور كبير قصيدة ما، فذلك أمر غير اعتيادي (لو شئنا التلطيف). أما أن يميز جمهور من زبائن السيارات في نيوزيلندة قصيدة كُتبت قبل مئة عام، وفي بلد يبعد ثمانية آلاف ميل عنهم، فذلك أمر مختلف كلياً"؛ هذا ما قاله ديفيد أور في مقالة نقدية للقصيدة.

لا شك أن قصائد وأبيات شعر عربية تحوز من الشهرة عربياً وعالمياً ما يمكن أن يقارن بتلك القصيدة، ولكن لم يحدث أن رأينا أياً منها في إعلان أو دعاية. هل هذا غريب في بلاد وبين شعوب كان الشعر منبرها الدعائي الأول؟ ربما لأنه ليس لدينا شركات لتصنيع السيارات، مثل شركة فورد. ما عسانا نقول من أجل الترويج لشركة شيبس أو علكة؟ أنستخدم لذلك إحدى أبيات المتنبي، أم مقطعاً لمحمود درويش أو نزار قباني؟

ليست العلة في شركات السيارات، فقد استخدمت شركة Apple iMac نفس القصيدة للترويج لأحد حواسبها. صحيح، لا شركات لتصنيع الحواسيب لدينا أيضاً.

لكن إذا عرفنا أن القصيدة استخدمت في أحد الإعلانات التجارية لأقراص النعناع (مينتوس) صار لزاماً علينا السؤال: لماذا يغيب الشعر عن إعلاناتنا التجارية؟ ماذا كان بالإمكان أن نستخدم للترويج لعلكة سهام مثلاً؟ ربما:

نصال من جفونك أم سهام

ورمح في الغلالة أم قوام

ولشيبس (ديربي):

غرفة صغيرة فيها:
امرأة تقشِّر البطاطا واليأس
عامل باطون لا ينام أبدًا
بنت تبكي كثيرًا بدون سبب
وأنا ولد مشاكس وغير لئيم
لديَّ كتب وأصدقاء

[ديربي نوع من أنواع الشيبس].

كأن رياض الصالح الحسين كتب هذه القصيدة لهذ الإعلان بالذات!

لمعامل الكونسورة يمكننا أن نقول: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" في مشاهد بعيدة عالية لأكوام البندورة الحمراء.

للجسد الجاف في الزنزانة: "إن التشابه للرمال وأنت للأزرق".

للراكضين إلى غاياتهم: الحرب، الحدود، النجاة، نقول ما قاله أمجد ناصر لعمال النسيج:

"إنهم يعرفون الخيوط وما تقترحه

أزرق: للستائر، للجنس، للشرفات العليّة

أخضر: للسجاجيد والحرم الجامعي

أحمر: ...

أبيض: خشن للكفن".

للقافزين في رهان البحر:

والآن أجلس فوق سطح سفينتي

كاللص أبحث عن طريق نجاتي

لسورية المحشوّة في شاشات الحواسيب والهواتف المحمولة، نعاير الصورة قليلة على GOOGLE EARTH لتبدو كاملة الخراب، ونقول لها:

*"يا سورية التعيسة كعظمة بين أسنان كلب".

(*رياض الصالح الحسين).