من العقد الاجتماعي إلى العقود الاجتماعية.. ماذا بعد سياسة الدعم الجديدة بسوريا؟

2022.02.05 | 06:45 دمشق

ttb6.jpg
+A
حجم الخط
-A

في عدد خاص من مجلة التنمية الدولية حاول بعض الباحثين تحويل مفهوم العقد الاجتماعي إلى أداة تحليلية تساعد في فهم التطورات غير المتوقعة التي حدثت في الشرق الأوسط، والتي سميت بثورات الربيع العربي. بالنسبة لهؤلاء الباحثين لم يكن العقد الاجتماعي هو حالة معيارية إيجابية كما وصفها منظروه الأوائل (مثل هوبز روسو وغيرهم) بل حالة أمر واقع يحدث في كل المجتمعات بطريقة أو بأخرى، وقد يحمل الإيجابيات والسلبيات. أعاد هؤلاء تعريف العقد الاجتماعي على أنه: "مجموعة من الاتفاقات الرسمية وغير الرسمية بين المجموعات المجتمعية وسيادتها (الحكومة أو أي جهة فاعلة أخرى في السلطة) بشأن الحقوق والالتزامات تجاه بعضها بعضا". ورأوا أن فعالية العقد الاجتماعي، أي قدرته على الحفاظ على الاستقرار السياسي، تعتمد بدرجة كبيرة على جوهره، أي المخرجات المتبادلة بين الحكومة والمجتمع، والتي تم اختصارها بأن تقدم الحكومة ما يسمى بـ (3Ps) أي أن تقدم الحكومة الخدمات الأساسية (بما فيها دعم السلع الأساسية وفرص العمل...الخ) والمشاركة السياسية والحماية (أي الأمن الداخلي والخارجي)، في المقابل يقدم المواطنون الولاء والضرائب. والخلل في هذا التبادل يمكن أن يؤدي إلى تغيير العقد الاجتماعي أو انهياره، مما قد يؤدي، بتضافر عوامل أخرى، للحرب الأهلية كما حدث في سوريا.

لم تقدم الدول العناصر الثلاثة التي يفترض أن تقدمها للمواطنين بل انتقصت من المشاركة السياسية وحاولت تعويضها بالحماية والخدمات الأساسية

انطلاقا من هذا الفهم للعقد الاجتماعي، يرى بعض هؤلاء الباحثين أن ما ساد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال مرحلة ما قبل 2010، هو مرحلتان. المرحلة الأولى هي مرحلة العقد الاجتماعي الشعبوي السلطوي من الاستقلال لغاية عام 1985 تقريبا، والمرحلة الثانية هي مرحلة العقد الاجتماعي ما بعد الشعبوي، أو العقد اللااجتماعي كما سمّته إحدى الباحثات التي مهدت لثورات الربيع العربي. في المرحلة الأولى لم تقدم الدول العناصر الثلاثة التي يفترض أن تقدمها للمواطنين بل انتقصت من المشاركة السياسية وحاولت تعويضها بالحماية والخدمات الأساسية (بما فيها السلع الأساسية المدعومة من خبز ووقود وما شابهها وفرص العمل)، وتم تمويل ذلك من مصادر ريعية وخارجية وخصوصا عائدات النفط والمساعدات الخارجية والتحويلات. لكن في المرحلة الثانية، مع تراجع أسعار النفط والمساعدات الخارجية والتحويلات وفشل نموذج التصنيع بديل الاستيراد، لم تستطع الدول أن تمول الخدمات الأساسية ومن ثم بدأت تخفف منها بدون أن تعوضها بالمشاركة السياسية. وربما عوضتها بالمزيد من الحماية الحقيقية أو المختلقة، أي زيادة درجة القمع بادعاء وجود مخاطر داخلية أو خارجية أو اختلاق تلك المخاطر اختلاقا.

كانت مصائر العقود الاجتماعية في الشرق الأوسط متنوعة ما بين التعديل بأشكال مختلفة أو الانهيار نحو الحرب الأهلية. والحالة السورية هي مثال على انهيار العقد الاجتماعي ونشوء العديد من العقود الاجتماعية (الجزئية الانتقالية) على أنقاضه، حيث نجد عقد مناطق النظام وعقود منطقة جبهة النصرة ومناطق المعارضة الأخرى ومنطقة الإدارة الذاتية بالإضافة لعقد داعش الذي انهار.

في مناطق النظام ظهر عقد اجتماعي معدل يشمل مناطق جغرافية أضيق وفئات اجتماعية أقل. بقيت المشاركة السياسية على حالها جوهريا، أي محدودة جدا، وإن تغير مقدار ممارستها بالنسبة لفئات المجتمع، حيث إن هناك فئات استبعدت وتم تقريب فئات أخرى من مركز القرار. ما تغير هو ارتفاع درجة الحماية الحقيقية والمختلقة وتم التمسك بالخدمات الأساسية، بل بذلت محاولات لرفعها في بداية الأزمة. لكن في السنتين الأخيرتين عاد الدعم للانحسار وخصوصا خلال الأيام الماضية، حيث تم الإعلان عن تغيير معايير استحقاق الدعم على السلع الأساسية مثل الخبز والمواد التموينية الأخرى والوقود. وهناك مؤشرات أن نحو 500 ألف عائلة قد تحرم من الدعم. ما الذي يمكن أن يعنيه ذلك بالنسبة لمستقبل سوريا؟

بالنظر للوراء، يرى عدد من الباحثين أن من الأسباب الأساسية للأزمة في سوريا هو عدم مراعاة السياسات النيوليبرالية التي اتبعها بشار الأسد منذ عام 2000 للعقد الاجتماعي، فيما يتعلق بتوفير السلع الأساسية المدعومة مثل الخبز والوقود وفرص التوظيف مما أدى لاستثناء فئة واسعة من السورية من حصتهم التي تقدمها الحكومة، ومن ثم ردهم على ذلك بالتخلي عن الولاء والثورة عليها. تلك الفئة تشمل الفلاحين وفقراء المناطق الشمالية والشرقية والجنوبية وأطراف المدن. وهم نفس الفئة التي استطاعت الحكومة السورية الاعتماد على ولائها، إلى جانب عوامل أخرى، في محاربة الإخوان المسلمين في الثمانينيات. ذلك الولاء كان يعتمد بدرجة كبيرة على المزايا التي قدمتها الحكومة لهم حينذاك.

يبدو الوضع الحالي للعقد الاجتماعي للنظام هو كما يلي: المشاركة السياسية لم تتغير جوهريا. بالنسبة للحماية، الحقيقية والمختلقة، ارتفع مستواها خلال سنوات الحرب. أي إن الدولة قدمت الحماية المطلوبة، بكفاءة منخفضة، سواء كان ضد تهديدات حقيقية أو مختلقة. إن ارتفاع حاجة الناس للحماية خوفا من الفوضى والصراع الطائفي والعرقي رفع من قيمة الحماية التي تقدمها الدولة في مناطق النظام مما جعلهم أكثر ولاءا. وبالنسبة للخدمات الأساسية والسلع المدعومة فإنها دعمت الولاء للحكومة سواء كانت تمول من قبل الحكومة أو كانت مساعدات تأتي من جهات خارجية، باعتبار أن المساعدات الخارجية توزع من قبل أجهزة الدولة أو جهات محسوبة عليها.

بالعودة للتعديل الأخير في سياسة الدعم، فإن الاحتمال الأرجح أن تتم عملية تراجع تكتيكي جزئي عنها بهذه الصيغة أو تلك، لامتصاص غضب الناس المتضررين، وربما تلميع صورة بشار الأسد باتخاذه قرار بإلغاء السياسة الجديدة أو تغيير الحكومة، لكن لن يتم التراجع كليا عنها نظرا لجفاف مصادر تمويل الحكومة. إن استمرت هذه السياسة ما الذي يمكن أن يحدث بمنظور العقد الاجتماعي؟

توسيع المشاركة السياسية تتناقض مع طبيعة النظام الحاكم. وهذا يعني أن الحكومة قد تدفع بقوة نحو تسخين جبهات الحرب القائمة

من منظور العقد الاجتماعي، مع الأخذ بالاعتبار أن قيمة الحماية التي تقدمها الحكومة قد تراجعت في أعين الناس بعد انحسار العمليات العسكرية في السنوات الثلاث الأخيرة، فإن انحسار الدعم عن فئة جديدة، هي في الغالب من الطبقة المتوسطة والفقيرة، يتطلب إحداث تعديل ما في العقد الاجتماعي الانتقالي للحكومة السورية يعوض ضعف الحماية وتقلص الخدمات الأساسية بتوسيع المشاركة السياسية أو أن تلجأ الحكومة إلى تسخين جبهات الحرب الأهلية الباردة حاليا، وإلا فإن هذا العقد الاجتماعي قد ينهار وتتجدد الحرب بصيغة جديدة وقد تظهر عقدا أو عقودا اجتماعية جزئية جديدة. أعتقد أن القمية المتصورة للحماية التي تقدمها الحكومة للناس، حقيقية أو مخترعة، ستلعب دورا حاسما، نظرا لأن توسيع المشاركة السياسية تتناقض مع طبيعة النظام الحاكم. وهذا يعني أن الحكومة قد تدفع بقوة نحو تسخين جبهات الحرب القائمة، وربما تحدث انفجارات أو عمليات إرهابية من أجل تعزيز قيمة الحماية التي تقدمها في أعين الناس، لكن مفعول هذا الإجراء قد يكون مهدئا لفترة معينة بعدها سيعود مطلب تغيير العقد الاجتماعي لطرح نفسه من جديد.

 

تم الاعتماد في إعداد هذا المادة على المقالين التاليين المنشورين في عدد خاص من مجلة التنمية الدولية

El-Haddad، A. (2021) Redefining the social contract in the wake of the Arab Spring: The experiences of Egypt، Morocco and Tunisia، World Development، 145، https://doi.org/10.1016/j.worlddev.2019.104774.

Loewe، M.، Zintl، T.  And Houdret، A. (2021)، The social contract as a tool of analysis: Introduction to the special issue on ‘‘Framing the evolution of new social contracts in Middle Eastern and North African countries”، World Development، 145 ، https://doi.org/10.1016/j.worlddev.2020.104982.