هل سيعاد تعميد معدل الفائدة في تركيا؟

2023.06.12 | 06:06 دمشق

هل سيعاد تعميد معدل الفائدة في تركيا؟
+A
حجم الخط
-A

في المنطق الأساسي لعلم الاقتصاد تتم صياغة سياسات الاقتصاد لكي تتعامل مع المعطيات المختلفة للواقع الاقتصادي الراهن. وفي العادة هناك مشكلتان معياريتان تتعامل معهما السياسة الاقتصادية، مع وجود تنويعات متعددة على الحالات المعيارية. عادة ما يكون هناك مشكلة الركود والبطالة في الاقتصاد ويتم التعامل معهما بسياسة اقتصادية توسعية، وتعني في جانب السياسة النقدية خفض معدل الفائدة. أو تكون هناك مشكلة التضخم ويتم التعامل معها برفع معدل الفائدة. في عام 2021 ووسط تضخم متسارع بادر الرئيس التركي باتباع سياسة اقتصادية توسعية وخفض معدل الفائدة. وقد اعتبر أن السبب الأساسي للتضخم هو معدل الفائدة وستتم محاربته وتصفيره. وهذا ما يعاكس تماما منطق علم الاقتصاد باعتبار أن خفض معدل الفائدة يؤجج التضخم وهذا يعني صب مزيد من الزيت على نار التضخم.

 في مقال كتبته في موقع تلفزيون سوريا عام 2021 أوردت ما يلي تعليقا على تلك السياسة الاقتصادية والتحدي الذي تشكله للمنطق التقليدي لعلم الاقتصاد: "إن انتصرت الحكومة على علم الاقتصاد ونقلت الاقتصاد التركي لحالة من الازدهار والنمو الاقتصادي، فهي فرصة لعلم الاقتصاد أن يطور منطقة ونظرياته. وإن انتصر علم الاقتصاد فستكون تجربة مكلفة ومؤلمة للشعب التركي لأن الاقتصاد سيتدهور للمزيد من التضخم وكبح الاستثمار، والنمو تاليا، ومن ثم المزيد من البطالة والفقر". من الذي انتصر؟

تم تعيين كل من محمد شيمشك وزيرا للمالية وحفيظة أركان محافظة للبنك المركزي، وبالنظر للخلفية الوظيفية السابقة والعلمية لكل منهما فإن تعيينهما يؤشر للعودة لاتباع سياسة اقتصادية تقليدية تتبع المنطق التقليدي لعلم الاقتصاد

بعد انتهاء الانتخابات وانتصار الرئيس التركي أردوغان تم تعيين كل من محمد شيمشك وزيرا للمالية وحفيظة أركان محافظة للبنك المركزي، وبالنظر للخلفية الوظيفية السابقة والعلمية لكل منهما فإن تعيينهما يؤشر للعودة لاتباع سياسة اقتصادية تقليدية تتبع المنطق التقليدي لعلم الاقتصاد، وهو ما يعني سياسات انكماشية في الفترة المقبلة من ضمنها رفع معدلات الفائدة. وقد لمح شيمشك لذلك قائلا "لم يبق أمام تركيا خيار سوى العودة إلى أساس عقلاني، فالاقتصاد التركي القائم على القواعد والذي يمكن التنبؤ به سيكون مفتاح وصولنا إلى الرفاهية المنشودة". وهذا ما يؤشر لانتصار علم الاقتصاد. هل يعني هذا هزيمة الرئيس التركي؟ هنا يجب أن نعرف ماذا كانت غايته الحقيقية في اتباع مثل تلك السياسة.

هل كان الرئيس التركي ومستشاروه جاهلين بمنطق علم الاقتصاد؟ بالتأكيد لا. بل اتبع لعبة تقليدية في السياسة الاقتصادية تسمى الدورات الانتخابية في السياسة النقدية. وقد طبقت هذه اللعبة بشكل خاص في الولايات المتحدة الأميركية. وخلاصة اللعبة هي أنه عندما يكون لدى الرئيس نيّة أو فرصة للترشح للانتخابات المقبلة فإنه يتبع سياسات اقتصادية توسعية عند الاقتراب من توقيتها، على رأسها خفض معدل الفائدة بغرض دفع الاقتصاد بشكل مصطنع نحو النمو الاقتصادي (وينتج عن ذلك مستويات متفاوتة من التضخم)، بغرض كسب مزيد من الأصوات في الانتخابات. يتم اتباع هذه السياسة بحذر بحيث لا ترتفع معدلات التضخم عن المستوى المقبول. وعندما لا يكون لدى الرئيس فرص للترشح أي في الولاية الثانية في الحالة الأميركية فإنه يتبع سياسات انكماشية. المشكلة في الحالة التركية هي أنه كان هناك تضخم مرتفع قبل البدء بهذه اللعبة وهذا ما رفع من خطورتها وأظهرَها شذوذا عن منطق علم الاقتصاد. وما خفف من تلك الخطورة هو أنه تم اتباع هذه السياسة الشعبوية مع إضافة نكهة إسلامية ذات تأثير ساحق عليها، أي شيطنة معدل الفائدة وتركيز الأضواء عليه على أنه رأس الشرور والمسبب الأساسي للتضخم.

تم خفض معدل الفائدة من 14 % إلى 8.5%. ولو قارنّاه بمعدل التضخم فهذا يعني أنه كان سلبيا بما لا يقل عن 30%. ولنا أن نتخيل حجم التحفيز المصطنع الذي يمثله هذا المعدل. في النتيجة حقق الاقتصاد التركي مؤشرا مقبولا في النمو الاقتصادي، إذ بلغ 5.6% عام 2022 والمتوقع 4% لعام 2023 ومعدل البطالة كان مرتفعا نوعا ما، إذ تراوح بين 10-11% والتضخم كان كارثيا، إذ تراوح بين 40-86% وانخفضت قيمة الليرة من نحو 9 ليرات للدولار إلى قرابة 23 ليرة للدولار. معدل النمو المقبول يقول لنا ما أنجزته تلك السياسة، ومعدلات التضخم الهائلة وتدهور العملة يخبراننا عن مدى كارثية تلك السياسة والثمن المرتفع الذي دُفع وسيُدفع أكثر في المستقبل.

يبدو أن الغاية المعلنة المتمثلة في نمو اقتصادي مستديم لتركيا بالقضاء على معدل الفائدة لم تتحقق. بل إن معدلات التضخم الملتهبة تدل على أن وعود خفض معدلات التضخم عند البدء بتطبيق تلك السياسة تبخرت

شكل النمو الاقتصادي المصطنع والشحنة الإسلاموية العالية في شيطنة معدل الفائدة بالإضافة إلى ما ينطوي عليه معدل الفائدة السلبي من عمليات إعادة توزيع ثروة واسعة في المجتمع التركي لمصلحة المقترضين سلاحا فعالا في الحفاظ على عدد كبير من الأنصار للرئيس التركي. وحقق الرئيس غايته الأساسية المتمثلة في البقاء في الحكم. لكن يبدو أن الغاية المعلنة المتمثلة في نمو اقتصادي مستديم لتركيا بالقضاء على معدل الفائدة لم تتحقق. بل إن معدلات التضخم الملتهبة تدل على أن وعود خفض معدلات التضخم عند البدء بتطبيق تلك السياسة تبخرت. ويأتي تعيين المسؤولين الاقتصاديين الجددد علامة على التراجع عن تلك السياسة الاقتصادية. كل هذا يعني أن علم الاقتصاد انتصر وأثبت صحة منطقه الأساسي وكانت تجربة السياسة الاقتصادية التركية فرصة لدعم ذلك المنطق. وانتصر الرئيس أردوغان لأنه لعب اللعبة الانتخابية بذكاء وركب العناصر ذات البعد الشعبوي في السياسة الاقتصادية بنكهة إسلامية لكي يحصد الأصوات اللازمة للبقاء في الحكم.

المتوقع خلال الفترة المقبلة بالاعتماد على خلفية شميشك وأركان وبافتراض أن الرئيس أردوغان أعطاهما هامشا كافيا للتحرك، هو اتباع سياسات اقتصادية انكماشية على رأسها رفع معدل الفائدة، وهي سياسة يتوقع أن تكون مؤلمة جدا على المستوى الشعبي. تلك السياسة ستستهدف محاربة التضخم وستنطوي على تراجع النمو الاقتصادي ومعدلات مرتفعة من البطالة والفقر على المدى المتوسط. لكنها ضريبة يجب أن تُدفع ثمنا للنمو المصطنع خلال الفترة الماضية. وسيكون مثيرا للاهتمام متابعةُ كيفية قيام شيمشك وأركان بإخراج تكويعة السياسة الاقتصادية في تركيا 180 درجة. والمثير للاهتمام أكثر كيف ستتم إعادة تعميد معدل الفائدة (التائب)؟ وكيف سيكون موقعه في الخطاب السياسي للحكومة التركية؟