في ضرورة مقاطعة تلفزيون سوريا

2024.04.25 | 08:09 دمشق

آخر تحديث: 25.04.2024 | 08:09 دمشق

68488888888888888884
+A
حجم الخط
-A

يحاول تلفزيون سوريا التعبير عن قيم حراك الربيع العربي، متمثلاً هنا في الثورة السورية خاصة في تقاطعهما مع القيم الإنسانية، ليس بصفة الثورة السورية حدثاً مرَّ وعبر وانكسر، بل بصفتها حدثاً مستمراً ومفتاحاً نحو إعادة امتلاك الإنسان السوري صوته وقدراته واكتشاف ذاته وموقعه وكذلك بوابة للمعرفة الحرة والتفكير المنهجي، وإمكانيات التواصل مع الآخر.

المزعجُ في تلفزيون سوريا (لكثيرين) أنه يحاول تقديم صحافة غير تعبوية أو إيديولوجية أو مسيئة، بل يقدم صحافة تلتزم بقدر عال من احترافية التجربة المبنية على الخبرة بتعقيدات المشهد السوري. وفي الوقت نفسه الانحياز لقضايا الإنسان السوري وهو يحاول استعادة بناء ذاته المهشمة في الداخل، أو في محطات اللجوء والهجرة وحقائب السفر.

مشكلةُ تلفزيون سوريا (لدى كثيرين) أنه ليس بوقاً لأحد، أو جهة سياسية محددة، أو ابناً لأب كبير يتدخل في تفاصيله ومساحاته. بل هو ابن، واثق في نفسه، للمهنية والإنسان السوري. يترك مساحة كبيرة لكل الأطراف الفاعلة في الحدث السوري لتعبر عن رأيها، فنجد في اليوم ذاته مقالاً لفاعل سياسي على جزء من الأرض السورية، وفي الوقت نفسه مادة عن إساءة قام بها من هم محسوبون عليه، لا أحد على رأسه قبعة إن أخطأ أو تجاوز، وفي الوقت نفسه إنْ قدم ما ينفع السوريين مرحباً به وبأخباره ضيفاً عزيزاً!

المهنية والخط التحريري في تلفزيون سوريا، تدفع كثيرين إلى ضرورة مقاطعته، لأنه يسعى للإضاءة على أنشطة وأحداث تجمع السوريين، أكثر مما تفرقهم. ينقل أخبارهم ولا يستثمر فيها. يقترب من أوجاعهم دون أن يتاجر بها، ينقِّب في ذاكرتهم دون أن يهدم سردية وجودهم، يتفاعل مع يومياتهم وهي تنهض من كبواتها، يقارب سلوكاتهم لتصحح مساراتها.

يختلف تلفزيون سوريا عن الكثير من الأنماط الإعلامية السائدة، أو التي كانت، في المشهد السوري، حيث إن الكثير منها يقوم على شيطنة السوري الآخر، أو استعمال خطاب شعبوي تهييجي، غير معرفي، لا قيمة له في سوق الإعلام المهني أو الذي يتوجه إلى آخر، بهدف مزيد من القراءات أو المشاهدات أو التخريب المجتمعي والفكري لحفر مزيد من الأودية بين السوريين، بحيث لا يعود هناك إمكانية ليجتمعوا أو يتحاوروا، أو يتقاطعوا حاضراً أو مستقبلاً.

المزعج في تلفزيون سوريا (لكثيرين) أنه بات أحد مراجع جس النبض السوري بالنسبة للسياسات الغربية في الموقف من سوريا أو حولها.

بالتأكيد، باتت رؤيا تلفزيون سوريا في السنوات الأخيرة أكثر وضوحاً وعمقاً بفعل التجربة والتطوير، وغدا أقرب للسوري، المهمش والفاعل معاً، في الداخل والخارج. إذ إن الفقير والمظلوم في اللاذقية وفي مناطق النظام لا يختلف عن الفقير والمظلوم في مخيمات قسد أو في الباغوز، أو الفقير المعدم في قرى عفرين، أو من تم تسفيره من اسطنبول أو من هو في رحلة اللجوء. ومن الواضح أن هذا الخط المهني تطور أولاً بأول، ونضج وتفاعل مع تجدد المعطيات من جهة، وواكب تغير الظروف المحلية والإقليمية والدولية. وهو تغير يهدف للمواكبة والمسايرة والمشي إلى الأمام. ومن المعلوم أن المنصات الإعلامية في العالم تغير خططها وتوجهاتها مرحلة أثر مرحلة وتراجع سياساتها ومصطلحاتها ورؤاها.

المزعج في تلفزيون سوريا (لكثيرين) أنه بات أحد مراجع جس النبض السوري بالنسبة للسياسات الغربية في الموقف من سوريا أو حولها، بصفته منصة مهنية تنقل نبض شرائح كبيرة من السوريين. وفي الوقت نفسه بات تلفزيون منصة مهمة لكي يوصل الدبلوماسيون الغربيون أصواتهم وفحوى سياساتهم ومواقفهم للسوريين مباشرة، عبر ظهورهم المستمر في برامجه، بعيداً عن الهيئات السياسية المعارضة، التي بات يدرك الكثير من الغربيين أنها لا تمثل إلا نفسها ولا قيمة لها في الشارع السوري المعارض.

يدرك أولئك الشباب والصبايا أن منصتهم وليدة مرحلة انكسار الثورة السورية والربيع العربي وليس في مرحلة ازدهارهما، فمن يقف اليوم مع المظلوم ونحن في عهد الترند والمنتصر، ومن يبني مؤسسة في مرحلة الانكسار وما أصعب البناء.

المزعج في تلفزيون سوريا كذلك روح الانتماء التي بنتها المؤسسة مع العاملين فيها وبنوها هم كذلك، نوع من التفاعل الإيجابي، هو لا يتخلى عنك وأنت مخلص له، بحيث صار التلفزيون بالنسبة لعدد كبير من العاملين والعاملات فيه أبعد وأعمق من كونه مكاناً للقمة العيش، (على أهمية فكرة أن يكون مكان ما مدخلاً للقمة عيشك) فبات كثيرون يرعون تلك المنصة بماء العين!

شبابٌ وصبايا من زمان الربيع العربي، تتراوح أعمارهم بين الخامسة والعشرين والأربعين، (باستثناءات قليلة) عاشوا أكثر من ثلاثة عشر عاماً في عهد الثورة وأعطوا مثالاً عن الأمل بالشباب السوري؛ فيما لو توفرت له ظروف موضوعية، شكلوا التلفزيون هم، وشكَّلت جوانب من شخصياتهم تلك المنصة. كبروا مع منصتهم وكبرت بهم. تزوج كثير منهم، وأنجب أو حصل على شهاداته الجامعية وهو يعمل في هذا المكان. ومثل أي مؤسسة تنمو، مرّ التلفزيون بغصات وأعناق زجاجات كثيرة، لكنه استطاع الخروج منها بجهود إدارته والمشرفين عليه والمنتمين له، والانتماء لا يعني ليس الجانب المادي فحسب، بل الشعور بالأمان الوظيفي والاجتماعي والزملائي. تغيرت علاقات العاملين فيه مع بعضهم وباتوا مجموعة بشرية تزاملت وتبادلت الأفراح والأتراح لسنوات، مما خلق المزيد من التقاطعات والمشتركات والتاريخ المهني والحياتي.

يدرك أولئك الشباب والصبايا أن منصتهم وليدة مرحلة انكسار الثورة السورية والربيع العربي وليس في مرحلة ازدهارهما، فمن يقف اليوم مع المظلوم ونحن في عهد الترند والمنتصر، ومن يبني مؤسسة في مرحلة الانكسار وما أصعب البناء! فلم لا يكونون هم وتكون مؤسستهم رائدة في ان تمثل جزءاً من قيم الربيع العربي بسماع الصوت الآخر مثلاً، ما أصعب المشي والعمل على حد السيف الإعلامي!

المزعج لكثيرين أن تلفزيون سوريا اليوم بات بيتاً افتراضياً لسوريين كثيرين ومؤشراً يشبع حنينا إلى ما تبقى من جلسة ثقافية، ذات ضمائر منفصلة متصلة أو ترفيهية أو صباح سوري يلمّ شملنا ويواكب تفاصيل أحاديث المقاهي لدينا أو أجواء رمضان، ليكشف عن أنه "في أمل"، وفي الوقت نفسه غدا منتدى دمشقياً سورياً لنقاشات عميقة حول مآلنا وذاكرتنا وتحولاتنا وتشظياتنا من خلال مئات ساعات البث المتنوعة.

مزعجٌ مثل هذا البيت لكثيرين، مزعج أن يكون هناك بيت إعلامي لنا. أعجبت كثيرين منا حياة التفرق والتشتت والضياع، لا نريد منصة تعيد تشكيل تفاصيلنا أو ترنو إلى أن تكون صوتاً لنا جميعاً بطاقة إيجابية عالية، ليس فيما يحدث بل فيما سيأتي من رؤى مستقبلية عما يريده السوريون!

من المهم في هذا السياق التذكير بأن تلفزيون سوريا مزعج جداً للنظام السوري، لأنه يقدم مساحة سورية مهنية ومحترمة وتعددية، وهذا يعري النظام وسرديته الذي اعتاد أن يكون وحيداً.

يدعو بعض النشطاء ويجب أن يعرفوا أنهم ليسوا بكثيرين إلى مقاطعة تلفزيون سوريا بحجة أنه يتبع مجموعة غير سورية هي فضاءات ، وكأنه كان لدى السوريين باقة من الخيارات ققاموا باختيار إحداها! الواقع يقول إن معظم من انشغل بالساحة السورية قد انسحب منها لأنه استثمار بالمفهوم المباشر غير رابح.

بدلاً من الاحتجاج على فضاءات أقول بصراحة: يجب علينا نحن السوريين أن نقدم الشكر له وأن نرفع له القبعة لأنه يستثمر في مشروع دون عائد مادي، ولأنه لم يتخل عنا في أحلك الظروف، فمن يستثمر اليوم في مظلوم أو منكسر أو صاحب ثورة مجروحة؟ إلا إن كان صاحب قيم إنسانية عالية، مهما كان دافعه، المهم أن نعرف نحن السوريين كيف نفيد منها لخدمة قضيتنا وفكرتنا ولا نخسر أنفسنا ونحافظ على مهنيتنا.

والسؤال هنا: لماذا نكثر من الشكر لمن قام بتمويل دراسة واحدة أو بحث ميداني أو منظمة من الغربيين مثلاً وهم الذين يتدخلون في كل التفاصيل؟ في حين أن من يوظف أكثر من مئتي إعلامي ومهني سوري، ويتعاون مع العشرات، ويقدم مئات الساعات الإعلامية والأخبار والتحليلات والمتابعات لوضعنا السوري دون أي تدخل مباشر في التفاصيل، نكثر من انتقاده في السر والعلن؟

نعلم أن دعم ورعاية قناة تلفزيونية تتبنى قيم الربيع العربي، يحتاج إلى جهات تتحمل عبء البث المباشر ومسؤوليته الكبيرة، خاصة إن كان في وضع معقد مثل الوضع السوري، وتبث تلك المنصة من دولة أخرى، وتمثل فريقاً من السوريين لا يمثلون الجانب الرسمي.ومن المهم في هذا السياق التذكير بأن تلفزيون سوريا مزعج جداً للنظام السوري، لأنه يقدم مساحة سورية مهنية ومحترمة وتعددية، وهذا يعري النظام وسرديته الذي اعتاد أن يكون وحيداً، بل إن المطالبة بإيقاف بث تلفزيون سوريا كانت أحد البنود الرئيسية في مفاوضات النظام مع تركيا أو دول خليجية وفقاً لمصادر من وزارة خارجية النظام نفسه.

ما يدفع (كثيرين) للدعوة لمقاطعة تلفزيون سوريا اليوم ليس مهنيته ومواظبته فحسب بل كذلك لحظة العدم واليأس السورية التي نعيشها، نتيجة انكساراتنا المتتالية، التي تدفع كثيرين للتساؤل: ماذا لو لم تعد تلك المنصة موجودة ماذا سنخسر؟

هذا سؤال يائس: السؤال الأصح منه: كيف نجعل من وجود هذه المنصة أقرب إلينا وأكثر فائدة للمشهد السوري. لنكون إيجابيين في البناء وليس ميالين للهدم! كيف نؤثر ونتأثر ونتفاعل مع الملايين الذين يتابعون هذه المنصة عبر البث المباشر أو وسائل التواصل الاجتماعي؟

هناك أسباب كثيرة إضافية تدفعنا لمقاطعة تلفزيون سوريا منها أنه يقدم برامج ثقافية جادة في عصر التفاهة، وأنه منصة لمعظم الكتاب السوريين الذين لا حزب لديهم أو منصة عيش في إطار دوره الاجتماعي، ومن الأسباب الإضافية أنه يقدم إعلاماً جاداً منافياً لإعلام "الانفلونسرز والمؤثر"، إنه نوع من الإعلام التقليدي المهني الذي يوظف السويشال ميديا والترند لخدمة محتواه ورسالته وفكره، وهو يدرك أن فكرة الإعلام التلفزيوني صارت أقل وهجاً، فيحرص على مواكبة المتغيرات عبر منصاته المختلفة، دون أن يفقد خصوصيته.

أن تكون صاحب قضية إنسانية أو ثورية هذا أمر ممكن، المهم هو: كيف تقدم القضية إلى الرأي العام وكيف تقنعه وتؤثر فيه، وتكسبه كي لا تخسر نفسك وقضيتك!

فكرةُ المقاطعة: مقاطعة منصة إعلامية، فلسفيا وفكرياً ومعرفياً فكرة انغلاقية مهزومة خاسرة، لأن المعرفة المضادة تواجه بالحوار والنقاش والتواصل، وليس بالانغلاق والانسحاب. فالمنصات الإعلامية ليست شركات "مطاعم سريعة"، إن قاطعنا

منتجها ستخسر الشركة وتغلق أبوابها وبالتالي قد يغير صاحب الشركة من دعمه أو منتجه أو مساره! فما بالك ونحن في المشهد السوري، اليوم، بأمس الحاجة لكل ما يجمعنا ويدفعنا للحوار أو النقاش، وليس للقطيعة والابتعاد والتنافر. مع أن القطيعة والمقاطعة أفكار مغرية في ضوء حمولاتها في ذاكرة السوريين حيث زرعها النظام السياسي "الأسدي" فترة طويلة كموقف "تعبوي" قيمي أخلاقي، وما كنا نعرف أنه كان يتاجر بها في سوق بقائه على كرسي الحكم أو توريثه!

بعد ثلاثين عاماً من عملي في الإعلام، أشبه العمل فيه اليوم بطنجرة الحليب التي كانت تغليها أمي على الحطب، ما إنْ تنشغل لحظة عنها أو تسهو أو "تتعب كإنسان" حتى يطفو الحليب وتذهب القشطة وربما تنطفئ النار!

هذا قدر الإعلام، في لحظة ما، ننسى كل ما يقوم به وننشغل بخطأ تحريري، أو هفوة عابرة، مع أنه في اليوم نفسه هناك عشرات المواد الإعلامية المتميزة على المنصة ذاتها مضادة لذلك الخطأ، ننشغل بفرصة التصيد والإساءة فنلجأ "للسكرين شوت" لتلك الهفوة، لننشرها عبر "غرف الواتس أب" كدليل على صحة موقفنا من تلك المنصة، وصحة تخويننا لذلك السوري الآخر، الناجح، الذي حصل على فرصة نتيجة تعبه واجتهاده أو "حظه" ربما، ودعاء والديه!

أخيراً: ألا يوجد ملاحظات أو أفكار لتطوير العمل في تلفزيون سوريا وهو "كامل مكمل"؟

بالتأكيد نعم يوجد الكثير منها، لسبب بسيط أن العمل الإعلامي في حالة سيرورة وصيرورة ومواكبة مستمرة.

لكن تلك المقترحات والملاحظات ليس موضعها في هذه المادة، لأن هذه المادة موضوعها: ضرورة مقاطعة تلفزيون سوريا!