انخفاض الاستثمار في فزاعة داعش سوريّاً وارتفاعها إفريقياً وخراسانياً

2024.04.06 | 06:05 دمشق

87666666666666857
+A
حجم الخط
-A

في بدايات ثورة عام 2011 ينقل صديق حضر اجتماعاً أمنياً مهماً في إحدى جهات مخابرات النظام السوري، أنه طرح بالاجتماع فكرة قيام المخابرات بتفجيرات أمام سفارات أجنبية ونسبها إلى الجماعات الإرهابية الدينية لتشويه الثورة السورية. وهو كان أحد من هيأ لها البيئة الملائمة للوجود، وسبق أن استثمر فيها إبان حرب أميركا على العراق، وأفرج عن عدد من قادتها في بداية الثورة.

وما ينسب اليوم إلى داعش في سوريا اليوم يكشف أن "جسمها لبيس" ولكل أهدافه من أسطرة داعش المتهالكة اليوم بمن فيهم الجولاني واغتيال القحطاني، وإن كان ليس مستبعداً قيامها بذلك، وكذلك إيران وفكرة إبقائها في منطقة قريبة من إسرائيل كحالة درعا، وإن كان المستثمر الأكبر حالياً في داعش هي قسد. إضافة إلى المستثمر الأقدم وهو النظام السوري لإفشال الثورة السورية مستجيباً للأوامر الإيرانية، مما سمح بفتح الحدود العراقية وانسحاب الجيش العراقي من مناطق الأنبار والموصل مما يجعل حراك داعش في منطقة جغرافية كبيرة مفتوحاً.

ما من بلد تضرر من داعش مثل سوريا وسمعتها على المديين القصير والطويل، والمشكلة أن معظم السوريين لا ذنب لهم، الأمر في جله غض نظر من المخابرات العالمية، ورغبة بتجميع المتطرفين في مكان واحد للتخلص من معظمهم دفعة واحدة. وقد عاشت دولة داعش خمس سنوات، قبل أن يقرر المجتمع الدولي أن ينهي تلك "الدولة" التي سمح لها أن تنمو في بيئة مثالية للتطرف كونها تعاني من الفقر والتهميش، إضافة إلى وجود موارد نفطية تجعل من يمسك بها يستطيع الاعتماد على نفسه فترة من الزمن.

الجغرافية السورية والفراتية خاصة لم تعد البيئة الصالحة للاستثمار الداعشي الدولي.

مرت قبل أيام ذكرى مرور خمس سنوات على إنهاء "دولة داعش عسكرياً" عبر معركة الباغوز، لكن آثارها على الوضع السوري لم تنته في جوانب رئيسية ثلاثة هي:

- الآثار الإيديولوجية التي تركتها عند شريحة من المجتمع السوري.

- السجون والمعتقلات وحراسها والخلايا النائمة أو المتخفية كقنابل موقوتة في الجغرافيا السورية.

- السمعة التي أصابت سوريا والسوريين وربط شريحة كبيرة منهم بالتطرف وفكرة أن يكون التطرف أحد ألوان الوجود.

بين فترة وأخرى تقوم بقايا داعش بعمليات بسيطة عبر أدوات بسيطة تحاول القول من خلالها: إننا موجودون، وفي الوقت نفسه تعطي المستفيدين من وجودها فرصة لإعادة تنشيط الدعم أو تحديد الأولويات لدى الداعمين الدوليين لمن يقوم بمحاصرتها.

تنشط في شهر رمضان كل عام مجموعات مسلحة ومافيات محلية مستعملة "اسم داعش" لابتزاز التجار وأصحاب المحلات التجارية من خلال رمي أوراق ليلاً عند أبواب محلاتهم لكي يؤدوا الزكاة لتلك العصابات المحلية في أماكن محددة بهدف تخويفهم والحصول على أموال دون بذل جهود تذكر، مستغلين سيرة داعش الدموية في القتل والإجرام.

وينشغل محللون كثيرون خارج سوريا ويسهبون في الحديث عن البنى الاجتماعية بخاصة في منطقة الفرات، والمبالغة في الحديث عن أدوارها وقوتها، معتمدين في تحليلاتهم على ما ينسب لداعش من عمليات هنا وهناك، تتمثل غالباً في قتل مدنيين لا ذنب لهم، يلتقطون الكمأة في الصحراء، وبحسب مصادر محلية فإن هؤلاء يعبرون عن خلافات محلية اقتصادية بين ما يدعى بميليشيا "الدفاع الوطني" وما تبقى من داعش الذين يهيمون في البادية السورية ويقدرون بمئات؛ ولو فتح باب المصالحة لهم لما بقي إلا قلة قليلة منهم مع داعش؛ مع الأخذ بعين النظر دور الخلافات العشائرية في التأجيج وهي حاضرة منذ لحظة دخول داعش والخلافات على آبار النفط بين أولاد العمومة!

المشكلة الكبرى في سوريا ليست اليوم في (القوة العسكرية الافتراضية لداعش) التي لم تستطع أن تخرج سجيناً داعشياً واحداً فحسب! بل كذلك في تلك المعتقلات والسجون والمخيمات الدولية لقوات قسد والتي تضع فيها الداعشيين ومن يتهمون بالداعشية والذين لا تقبل دولهم باستردادهم، حيث سيشكل أولئك مشكلة كبيرة لسوريا المستقبل، خاصة أن قسد لم تنته من الاستثمار بهم، وتحاول مطمطة مشكلتهم إلى أقصى مدى لأن سردية قسد الدولية تقوم على بقاء تلك السجون والمعتقلات، وعادة ما ترتفع تصريحات قسد كلما حدثت عملية دولية لداعش (تفجير موسكو قبل أيام).

الاستثمار في داعش

لن ينتهي الاستثمار في داعش ما دامت هناك أطراف مستفيدة منها، ولا يتوقف الأمر على قسد بل كذلك يشمل إيران ومعظم الفصائل المسلحة في سوريا بمن فيها النظام السوري وهيئة تحرير الشام، إضافة إلى أن القادة الميدانيين في قسد يحصلون على آلاف الدولارات يومياً من أجل تأمين اتصالات لأعضاء داعش بأهلهم أو زيارات أو إفراجات!

محاولة قسد والميلشيات الإيرانية تصوير أن منطقة الفرات بيئة داعشية ليست صحيحة، فتلك البيئة تاريخياً لم تعرف التطرف الديني، وهي أقرب ما تكون للدين الفطري البسيط. وانتشار التدين في تلك المنطقة تمّ عبر متصوفة قدموا من العراق أول القرن العشرين، بل إن تلك المنطقة فيها إرث ثقافي شيعي كبير قادم من ارتباط تلك الفرق الصوفية بآل البيت.

الجغرافية السورية والفراتية خاصة لم تعد البيئة الصالحة للاستثمار الداعشي الدولي لأسباب عدة منها:

- بات لدى داعش بيئات جديدة في أفريقيا وخراسان نقلت نشاطها الدولي إليها، أهم بكثير من تلك البيئة المحاصرة المكشوفة التي تخلو من جغرافيا مساعدة؛ وفيها تنتشر حراسة دولية، إضافة إلى بيئة كارهة وحصار مالي خانق، وامتلاء الجغرافيا بأعداء داعش؛ التي تعتمد على نظرية اضرب واهرب؛ وتبتعد عن فكرة الاحتفاظ بالجغرافية وتعتمد على التفجيرات الذئاب المنفردة والخلايا النائمة.

- الأطراف التي تلتحف بمحاربة داعش تعبت من النفخ في "قربة مثقوبة" لأن داعش لم تعد موجودة هناك عسكرياً إلا من خلال بقايا من المتطرفين وعدد من الناقمين وأصحاب الثارات، وممن فقدوا قسماً من أهلهم إبان محاربة داعش؛ وهؤلاء لو وجدت حلول لتخلى معظمهم عن فكرة داعش التي تكسرت!

- تعب السوريين من داعش وتشويهاتها ووعودها وخرابها الاجتماعي والفكري وما جرته من ويلات عليهم.

من جهة أخرى ثمة تقصير دولي تجاه محاربة داعش في سوريا، لو حاولنا أن نوازن بين إرادة المجتمع الدولي في محاربة داعش في العراق ومحاربته لها في سوريا لوجدنا أن الفرق كبير جداً، لأنه في العراق توجد معالجة سياسية واجتماعية وفكرية، إضافة إلى المعالجة الأمنية. أما في سوريا فيكتفى فقط بالمعالجة الأمنية، وتستمر سياسة إفقار المنطقة والاستجرار الجائر لنفط المنطقة وغازها لصالح القسديين والإيرانيين مما يولد بيئة كارهة مهمشة متطرفة قد تلجأ لحلول أمنية انتقامية لاستعادة شيء من ثرواتها ومكانتها بخاصة في ظل غياب دولة مركزية سورية، أو سلطات محلية عادلة، أو لديها شيء من الالتزامات الاجمتاعية والخدمية والشعور بمسؤولية إدارة منطقة جغرافية.

تعب السوريين من داعش وتشويهاتها ووعودها وخرابها الاجتماعي والفكري وما جرته من ويلات عليهم.

يجد زائر المنطقة التي تسيطر عليها قسد أن التنمية في مناطق القامشلي وما حولها، أو لنقل المناطق التي يوجد فيها كرد سوريون بكثافة يختلف كلياً عن مناطق جنوب الحسكة ومنطقة الفرات، إذ تبدو تلك المناطق خدمياً كأن هناك دولتين تحكمانها مع أن كلتيهما تحت إطار سلطة واحدة. والسبب بسيط أن قسد تنظر إلى المناطق التي يسكنها عرب فحسب بصفتها ورقة استثمار عابرة ومكاناً لإنتاج النفط تتخلى عنها متى ما وافق الأميركان أو دفع النظام السوري الثمن اللازم لاستعادتها، أما في المناطق ذات الكثافة الكردية فتنظر إليها بصفتها ورقة استراتجية تحفر عميقاً في وجدان الناس وتستثمر الفرصة لتنميتها وتخديمها.

تشير متابعة أجهزة المخابرات الغربية إلى أنها لم تعد تخشى كثيراً من تلك البقايا الداعشية في سوريا دولياً في ظل تنسيق أمني رفيع المستوى بين التحالف الدولي وكل من تركيا والعراق والنظام السوري وإقليم كردستان، وتتجه أنظارها اليوم إلى داعش خراسان وإفريقيا، وتراقب أعضاءه وتحاصره وتضيق الخناق عليه وتبحث عن أنجع السبل كي لا يصل أذاه إليها أو يتم استغلاله من أطراف لديها مشاكل مع دول أوروبية لاستثمار أولئك المتطرفين في عمليات في أوروبا. مثل إيران وروسيا.

سردية داعش

محققو ملفات اللجوء اليوم في أوروبا لم يعودوا يهتمون كثيراً، إبان التحقيق مع المتقدمين بطلبات اللجوء، مؤخراً، بسردية داعش، ويدركون أن تلك السردية استوفت حقوقها السردية تاريخياً. ويكتفون بملاحقة ما وصلهم من لاجئين ومراقبتهم ومتابعة تحركاتهم وتحويلاتهم المالية، للمحافظة على أمن مجتمعاتهم ومواطنيها من سكان أصليين، أو مواطنين جدد تجنسوا مؤخراً.

أما وهْمُ حرص أوروبا على المجتمعات الشرقية أو العربية وحقوق الإنسان فقد اكتشفنا حين جئنا إلى أوروبا أنه وهمٌ كان يعشعش في رؤوسنا فحسب! فما يهمهم مجتمعاتهم، وما يمكن أن يحدث من أحداث في مجتمعاتنا قد تؤثر على مجتمعاتهم! بل إن أوروبيين كثيرين: مسؤولين ومثقفين وسياسيين ومخابراتيين لا يترددون بالقول: إن كانت تلك خياراتكم الفكرية والإيديولوجية في بلدانكم الأم فتلك مشكلتكم، وعليكم أن تقتلعوا أشواككم بأيديكم، تلك مسؤولياتكم، ونحن لسنا (بابا نويل) لكم، نحن (بابا نويل) لمجتمعاتنا وليس للدول الأخرى!