تعدين وتدوير بشار الأسد

2021.06.03 | 11:36 دمشق

karrr.jpg
+A
حجم الخط
-A

وأخيراً، ستعقد القمة المرتقبة بين زعيمي أقوى دولتين في العالم يوم 16 من هذا الشهر في جنيف، وستُحل عقدة انتظار بوتين، الذي يواجه ربما للمرة الأولى، رئيساً أميركياً لا تُعرف نواياه، أو على الأقل لا يشبه ترامب الذي كان يعلن أفكاره على مدار الساعة عبر تصريح هنا وتغريدة هناك.

لقد مرت عليه شهور خمس ثقيلة جداً، فمنذ تاريخ تولى بايدن منصبه في 20 من يناير/كانون الثاني، لم يبدِ الأخير اهتماماً أو رغبة بلقائه. لا بل زاد في طنبور هواجسه نغماً، حينما اتهمه في منتصف آذار الماضي بأنه قاتل، وحذره بأنه سيدفع ثمن أفعاله.

لكن رجل موسكو بجلده السميك، لم يتوقف عند الإهانة كثيراً، وسوى استدعاء السفير الروسي في الولايات المتحدة "للتشاور"، لم يحدث أمر خطير مستجد في سياق العلاقات الفاترة أصلاً بين الطرفين، والتي تمضي منذ زمن طويل وفق نوابض العقوبات الأميركية، ولا شيء آخر.

صبر سيد الكرملين على بلادة بايدن، أو لنقل تحمله للبرودة الأميركية غير المسبوقة، هو جزء من سياق لعبة عض الأصابع التقليدية بين البلدين.

لقد خاطب الحكومات الغربية بالإيحاء ومنذ سنوات: تعالوا نناقش كل شيء، وفي النهاية، وبعد الاتفاق، نتباحث بشأن سوريا، ومصير بشار الأسد. بينما يرد هؤلاء: لنعكس السياق

لكن تورط روسيا في الأعمال القذرة حول العالم، يوماً بعد يوم، يجعل ملفات التعاون في أزمة كورونا، وقضايا أممية كأزمة المناخ، مدخلاً مبسطاً للدخول في الملفات الأعمق العالقة بينهما، كقضايا معاهدات الحد من التسلح النووي، والاتفاق على منع التسلح في القطب الشمالي، وصولاً إلى القضايا الأكثر إشكالية التي  تزيد من عقوبات الغرب عليها، كملف روسيا البيضاء الأخير ولاسيما قصة اختطاف المعارضين، ومسألة المعارض ألكسي نفالني، وشؤون كوريا الشمالية وطريقة التعاطي مع ملفها النووي، والاتفاق النووي مع إيران، ومشكلة شرق أوكرانيا، وأخيراً، الملف المزمن: سوريا.

لقد خاطب الحكومات الغربية بالإيحاء ومنذ سنوات: تعالوا نناقش كل شيء، وفي النهاية، وبعد الاتفاق، نتباحث بشأن سوريا، ومصير بشار الأسد. بينما يرد هؤلاء: لنعكس السياق، من أجل اختبار الجدية، ليكن التخلص من الأسد بادرة حسن نية، ولننطلق بعدها.

لكن بوتين يظن أنه يمتلك مساحة واسعة للمناورة، في هذه المسألة وحدها، فهو يستطيع أن يأتي بالدب الروسي ليعيش في هذه المساحة، أو ليقضي فيها سباتاً مديداً، متمدداً براحته، طالما أن لا شيء سيزعجه.

فالأثمان التي يحتاجها لإنفاذ سياسته في سوريا، ولاسيما حماية نظام بشار الأسد من السقوط، ما تزال بسيطة، ويمكن تحملها على المستوى المحلي.

إذ لا وجود لقتلى في صفوف القوات التي تم نشرها في أماكن شبه آمنة في سوريا، وإذا حصل ذلك وسقط منها البعض، فإن أعداد القتلى في المناورات التدريبية الشهرية تتجاوز أعداد كل الذين أودى بهم التدخل العسكري المستمر منذ أيلول 2015؛ (112 قتيلاً بحسب النائب الأول لرئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما، أندريه كراسوف، في منتصف آذار الفائت)

كما أن الكلفة المادية العالية، تبدو غير ذات تأثير على المستوى العام، فسوريا بالنسبة لإطار العمليات العسكرية للجيش الروسي، أقرب إلى موسكو من شبه جزيرة كاماشاتكا أو سخالين.

ورغم أن ثمة أحاديث كثيرة جرى تداولها هنا وهناك، عن أن التكاليف المفترضة لعملية التدخل تعهد بدفعها محمد بن زايد، ولم يتم تأكيدها بشكل عملي، إلا أن المكاسب التي تحدث عنها، وأعاد التذكير بها قبل أيام، في رسالة التهنئة، التي أرسلها إلى بشار الأسد بمناسبة "فوزه" بالانتخابات، تركزت على تجارب الأسلحة ضد الأهداف الحية.

وهذه فرصة نادرة لا تقدر بثمن، سيتمسك بها أي مسؤول عسكري، فكيف إذا كان ديكتاتوراً أرعنَ بعقلية مافيوية كبوتين، إذ لا يمكن العثور في كل الأزمنة على حاكم كبشار الأسد يمنح جيشاً غريباً فرصة التدرب وتجربة أسلحته بأجساد أفراد شعبه، وبأملاكهم وأراضيهم.

لقد نظر إلى بشار منذ البداية على أنه قطعة عملة إلكترونية من نوع بتكوين رخيصة، يمكن تملكها وتركها إلى وقت الحاجة، وجعلها بذاتها تقرر ثمنها. رغم معرفته أن صناعة (تعدين) مثل هذه العملة، تحتاج إلى جهود هائلة وطاقة جبارة لتشغيل الحواسيب العملاقة التي تنجز شيفراتها السرية.

لقد نظر إلى بشار منذ البداية على أنه قطعة عملة إلكترونية من نوع بتكوين رخيصة، يمكن تملكها وتركها إلى وقت الحاجة، وجعلها بذاتها تقرر ثمنها

لكن (العالم الديموقراطي) أي أوروبا والولايات المتحدة، بكل الرؤساء والحكومات الذين تعاقبوا خلال العقد المنصرم، لم يكونوا مهجوسين بسوريا، وكذلك لم يهتموا لا بخسائر الروس ولا بأرباحهم.

واتخذ هؤلاء إجراءات جعلت من قيمة الأسد كعملة إلكترونية صفراً، عبر سلسلة طويلة من العقوبات والإجراءات الكابحة.

وفي المحصلة، بات على بوتين أن يعيد تدوير بشار الأسد، فيقنع الآخرين بأنه شرعي، وأن ثمة من يؤيده، وأن التغليف الجيد يمكن أن يغطي هنات وأخطاء التصنيع! فمن ذهبوا إلى الصناديق حتى وإن كانوا جموعاً من المنكوبين الهائمين هم سوريون، صحيح أنهم بلا حول ولا قوة ولكن يمكن لهم أن يتحملوا مثل هذا الحال السيء سبع سنوات أخرى، طالما أن الصفقة لم تتم، وبالتالي فإن الآخرين الذين لا يمنحون الرئيس الروسي ما يريد هم شركاء في أذية السوريين.

مشكلة هذا النهج هنا ليست أخلاقية، فالأخلاق هي آخر ما يتم النظر فيه في سياق التجارة، والأخذ والعطاء، ولغات ولهجات المصالح الإقليمية والدولية، بل هي في أن مبدأ المراهنة على العملة الرديئة يخرب الاقتصاد، فكيف إذا كانت إلكترونية مستهلكة، وبشيفرات وأكواد مكشوفة ومفضوحة، يظن بوتين أن لديه بضاعة ثمينة، بينما يرى العالم أن كنزه الثمين، ليس سوى كتلة قذارة، ولا أحد يريد أن يتسخ بها؟!