بندقية تشيخوف السورية

2021.07.08 | 06:33 دمشق

eweivzswsaaxu7z.jpg
+A
حجم الخط
-A

خلال الأيام الأولى للثورة السورية، خيم على وجوه الكثير من المثقفين السوريين العاملين في المؤسسات الإعلامية والثقافية الرسمية ظلٌّ أسودُ لم يدروا من أين أتى!

أَجاء من حدوث ثورة غير متوقعة، لم تكن الأحزاب السياسية المعارضة كما النخب الثقافية مستعدة لها؟

أم أنه ارتسم كعلامة متوقعة، بعد تاريخ طويل من استخدام النظام العنف الدموي، ضد المعارضين، سلميين كانوا أم مسلحين؟!

عديدٌ من المثقفين ومن النخب حسموا أمرهم سريعاً بالوقوف إلى جانب الثورة والثائرين، بعد أن أدركوا أهمية اللحظة المنتظرة منذ عقود، والتي كثيراً ما بشرت بها الأيديولوجيات، التي تحكم توجهات غالبية القوى السياسية السورية.

عديدٌ من المثقفين ومن النخب حسموا أمرهم سريعاً بالوقوف إلى جانب الثورة والثائرين، بعد أن أدركوا أهمية اللحظة المنتظرة منذ عقود

وعلى العكس من هؤلاء، تحول الظل إلى تجهم وعبوس لا يخفيان على وجوه آخرين، خافوا على مصالحهم، المرتبطة بوجود النظام، وبالعلاقة مع بعض أركانه، وبالانتماء الطائفي، وخشية فقدان الجعالات هنا وهناك، فانصرفوا يتحدثون بإلحاح أن التغيير في سوريا يجب أن يكون مدروساً، وأن الثورة المنتظرة، لا يجب أن تفعل كذا وكذا، مروراً باتهام الحراك العفوي بالارتماء في أحضان الإسلاميين، وانتهاءً بالوصمة التي ما انفكت تتكرر في خطاب هؤلاء، بالتوازي مع رسوخها في خطاب النظام، والتي تتمحور حول التمويل الخارجي، وهي سردية واسعة تتعدد وحداتها، فتبدأ من استلام الثائرين لدعم مالي من الخارج، للصرف على أنشطتهم لوجستياً وإعلامياً، أرسله سوريون، ولكن مجرد قدومه من وراء الحدود، سيستدعي اتهام العملية كلها، بالخيانة!

وتتوالى في مراحل متقدمة، ومع تحول الحراك إلى مساره المسلح، تصبح الوصمة أمراً راسخاً بتعدد الممولين والداعمين!

ما يهمنا هنا، ونحن نتذكر الصيرورة التي مضت فيها ادعاءات من عادوا الثورة منذ أيامها الأولى، أن التمهيد للأحداث، كان يبدأ هكذا، بتسريب إشاعة أمنية، سيتداولها هؤلاء، فيكررونها، في كل مجلس ومحفل. وقد تبين لاحقاً أن هؤلاء بغالبيتهم، كانوا جزءاً من غرفة عمليات إعلامية، يتلقون عبرها الأخبار المخابراتية، والتي تتحول إلى حقائق راسخة، وضمن هذا المسار سيؤكد أمامي غسان مسعود قصة غرائبية خبراً عن اعتقال الأمن لرياض الترك (الأمين العام التاريخي للحزب الشيوعي – المكتب السياسي) وفاتح جاموس (قيادي مفصول من حزب العمل الشيوعي) مع الشيخ أحمد الصياصنة (خطيب الجامع العمري)، معاً، بعد أن حاصرهم مجتمعين في درعا البلد، وسيتحدث مسعود عن العثور على أسلحة تكفي لتسليح فرقة كاملة من الجيش السوري وجدها رجال الأمن العسكري في مستودع قلعة المرقب شرق مدينة بانياس الساحلية!

ما يهمنا هنا، ونحن نتذكر الصيرورة التي مضت فيها ادعاءات من عادوا الثورة منذ أيامها الأولى، أن التمهيد للأحداث، كان يبدأ هكذا، بتسريب إشاعة أمنية

ما سمعته بأذني من الممثل المؤيد للنظام، والذي مازال يعيش في كنفه، سمع مثله السوريون، منذ الأيام الأولى للثورة، قصصاً ألفها أصحاب خيال خصب، من أمثال البارجة الألمانية لصاحبها المحلل السياسي طالب إبراهيم، ومقلوبة الأسد وغيرها.

لكنهم استهجنوا بأصوات عالية منددة، تصريح الناشط السياسي هيثم مناع، عندما تحدث آنذاك عن وجود جهات، عرضت عليه إرسال السلاح إلى محافظة درعا، من أجل مواجهة عنف النظام ضد أهلها!

لقد كان المناخ السلمي مهيمناً إلى درجة إنكار وجود أي قطعة سلاح بين المتظاهرين السلميين، لكن التسلح وقع وتحولت الثورة يوماً بعد يوم إلى عتبتها العنفية، كما قالت وثيقة (لم يتم تأكيد صحتها) انتشرت في ذلك الوقت، تتحدث عن خطة أمنية ذات مراحل، ستعمل وفقها الأجهزة الأمنية، من أجل تدمير الحراك السلمي، ودفعه صوب السلاح والدم.

كل ما تحدثت به الوثيقة المزعومة، حدث فعلاً، بشكل أو بآخر، وبما يؤكد أن وقائع كثيرة جرت وكأنه قد خُطط لها، وكأنها تنفيذ فعلي للروايات التي كانت تُسرد على أسماع المثقفين، الذين تحولوا مع مرور الزمن من صامتين إلى رماديين، ثم انتهوا مؤيدين لانتخاب بشار الأسد، في سياق ما سمي بالانتخابات الرئاسية الأخيرة.

لقد كان المناخ السلمي مهيمناً إلى درجة إنكار وجود أي قطعة سلاح بين المتظاهرين السلميين، لكن التسلح وقع وتحولت الثورة يوماً بعد يوم إلى عتبتها العنفية

في ملاحظاته التي كانت تهدف إلى تعليم الآخرين أصول القص والسرد، قال عبقري القصة والمسرح الروسي أنطون تشيخوف في إحدى رسائله: "فإن ذكرت في الفصل الأول أن هناك بندقيةً معلقةً على الحائط، حقاً يجب أن تستعمل البندقية، إما في الفصل الثاني أو الثالث. يجب ألا تبقى معلقةً هناك إذا لم يجر إطلاقها"!

ومن هذه الفكرة اللازمة في تكنيك الكتابة الإبداعية، اشتق مبدأ درامي اسمه "بندقية تشيخوف"، نرى الآن وبعد مرور عقد كامل على أيام الثورة الأولى، كيف أن كل ما تحدث به أولئك المريدون للغرف الأمنية السورية التي علقت بنادقها التشيخوفية، قد حدث فعلاً.

غير أن المفارقة التي سنتعثر بها، ونحن نقرأ الدراما السورية شبه الكاملة، أن الأسد لم يعلق على جدار مسرحيته المستمر بندقية الاستعانة بالإيرانيين والروس، لكنه جلب المحتلين إلى سوريا، تحت مرأى وسمع مؤيديه، الذين صاروا يتحدثون عن فضائل الثقافتين الإيرانية والروسية!

وهو أيضاً، وبعد أن وعدهم بالنصر الحاسم على المؤامرة الكونية، ترك بندقية الجوع تطلق نيرانها عليهم، فلم يعد ينفع السوريين أن يخرج عليهم الممثل "العالمي" المذكور أعلاه، في أحد لقاءاته المصورة مستنكراً "حرب الجوع والفقر"، فالاستنكار لا يغسل ما يعلق بالكائن من آثام الضمير.