icon
التغطية الحية

يد الكاتب بين منطقية عالم الرواية وعبثية الواقع

2022.07.23 | 07:14 دمشق

كتابة
+A
حجم الخط
-A

كثير من الروائيين يستهلون رواياتهم بعبارة "هذا النص لا علاقة له بالواقع، وأي تشابُه في الأحداث أو الأسماء فهو محض مُصادفة"، فهم ينفون أي اتصال بين الواقع وعوالمهم الروائية. وهناك روائيون آخرون يمهرون رواياتهم بعبارة "جميع الأحداث والشخصيات حقيقية ومن صلب الواقع".

ولكل كاتب مبرراته في ذلك التنويه، ولكنه يشكّل في كلتا الحالتين إشارة إلى جدلية العلاقة بين الواقع والرواية، وهنا يبرز التساؤل: هل الرواية فن تخيّلي لا صلة له بالواقع أم أنه ابن الواقع؟

"الرواية كذبة، والرواية الجيدة هي الحقيقة داخل الكذبة" ستيفن كينغ

يبني الروائي عوالمه الروائية من خلال نظام يحكمه المنطق، منطق مبني على قوانين يرسمها الروائي بدقة لا متناهية، حتى روايات الفانتازيا تكون محكومة بحدود قوانين الرواية التي يرسمها الكاتب، والقارئ يحاسب الروائي وفق منطق هذه القوانين.

لذلك يعد ركن إعداد العالم الروائي من أهم أركان الرواية حيث يتضمن تفاصيل الزمان والمكان وغيرها من الأدوات والمضامين الضرورية لبناء عالم الرواية، والمكان الذي تدور فيه الأحداث له أهمية كبيرة في بناء قوانين عالم الرواية، فيمكن أن يكون على سطح الأرض، أو على سطح المريخ كما في رواية المريخي، ولذلك حتى قوانين الطبيعة البسيطة كالجاذبية يجب أن يعاد النظر فيها من قبل الروائي. كما يمكن أن يكون مكان الرواية عالم خيالي يرسمه الروائي بقوانينه المتشعبة والمتنوعة كما في رواية سيد الخواتم التي تدور أحداثها في الأرض الوسطى ذلك المكان الافتراضي الذي صنعه الكاتب، وحدد له زمناً ما قبل بدء التاريخ، شخصيات القصة من شعوب خيالية مثل الهوبيت، والبشر والأقزام والسحرة والأورك والآلف وغيرهم.

وبالطبع، هذا العالم الروائي المنسوج بمنطقية لا متناهية هو مجرد كذبة، أي أنه غير موجود في الواقع؛ لكن هذا الكذب مختلف عن كذب الواقع، إنه كذب منضبط بقوانين الرواية وكأن هناك اتفاق ضمني بين القارئ و الكاتب، إذ يقول القارئ للكاتب: "اكذب علي، ولكن اكذب بشكل محكم حتى أستطيع تصديقك، لأنني أريد اكتشاف حقيقة جديدة في نسيج الأكاذيب التي تختلقها"[1].

"نحن نحب قراءة الروايات من أجل خلط الواقع مع الخيال" أورهان باموق

أبسط تعريف للرواية هي أنها نص متخيل، لا يمثل الواقع إنما يوازيه. فالرواية والواقع يسيران بمساريين متوازيين لا يلتقيان ولا يتقاطعان، ويمكننا أن نسقط أحدهما على الأخر دون تطابق. لأن الرواية منطقية بينما الواقع اعتباطي، عشوائي[2]. ونحن نقرأ الرواية المنطقية ونعيش الواقع الاعتباطي بذات الوقت، وكلما كانت الشروط الفنية للرواية متحققة؛ كلما زاد توهمنا بين شخوصها وشخصيات واقعية نعرفها على الرغم من إدراكنا أن العلاقة بين الرواية والواقع مجازية.

فالرواية مجرد خيال يعبر عن رؤية كاتبها للإنسان وللحياة تكتسب مصداقيتها أمام القارئ من خلال منطقيتها وواقعيتها، فواقعية الرواية ليست نقلاً للأحداث الواقعية وإنما تتجلى في عناصر الرواية ذاتها، فكل عنصر يضيف شيئاً من الواقعية للرواية، على الرغم من تناقض بعض صفات هذه العناصر مع الواقع، فالحوارات الواقعية على سبيل المثال تختلف جذرياً عن حوارات الروايات التي تتسم بالإيجاز والخلو من الحشو الذي تمتلئ به أحاديثنا اليومية، أيضاً الشخصيات الروائية غالباً ما تكون عميقة ومرسومة بدقة، فكل تصرف من الشخصية الروائية محكوم بمنطق هذه الشخصية وفقا لخلفيتها الدرامية وصفاتها الشخصية التي نسجها الروائي، ومثل هذه الشخصيات لا نصادفها كثيراً في الواقع فالشخصيات الواقعية أكثر تعقيداً.

"نشعر أحياناً بأن عالم الرواية الذي نستمتع به هو أكثر واقعية من الواقع نفسه" أورهان باموق

الخلط بين الواقع والرواية هو خلط شائع لا يقع فيه القارئ البسيط فحسب، بل والنقاد واسعو الاطلاع أيضاً، وهذا ما حدث مع الروائي التركي أورهان باموق الحاصل على جائزة نوبل، حيث خصص الفصل الثاني من كتابه "الروائي الساذج والحساس" بعنوان: "سيد باموق، هل حدث حقاً كل هذا معك؟".

من خلال هذا الفصل يحاول الأديب التركي أن يجيب على هذا التساؤل الهام من خلال تجربته الفريدة في قراءة الروايات وفي كتابتها، فيروي موقفاً حدث معه شخصياً بعد إصدار روايته "متحف البراءة" وبعد أن تكرر عليه سؤال: "سيد باموق، هل حدث حقاً كل هذا معك؟". حيث التقى صديقه البروفسور المولع بقراءة الروايات، وأثناء سيرهما في شوارع "نيشانتيشه/ Nişantaşı الحي الذي جرت فيه أحداث الرواية؛ دارت بينهما حوارات ثقافية حول الرواية واشتكى له تكرار هذا السؤال عليه من قبل القراء، وفجأة وقف البروفسور أمام مبنى يقع مقابل مسجد Teşvikiye، لأنه افترض بدون وعي أن صديقه الكاتب أورهان يسكن في ذلك البناء، فبطل الرواية كمال كان يسكن هناك مع أمه، وهذا الافتراض ناشئ عن دقة وصف المكان حيث تداخل الخيال مع الواقع.

 "ومثل أي رجلين مسنين عندما يصلان إلى نقطة يستطيعان من خلالها تخطي كل شيء، ابتسمنا إلى بعضنا لخلطنا بين الواقع والخيال. أدركنا بأن الأوهام قد تمكنت منا، ليس لأننا نسينا أن الروايات ترتكز على الخيال بقدر ما ترتكز على الواقع، ولكن لأن الروايات تفرض على القارئ مثل هذا الوهم"[3].

"لا تستخدم المصادفة كي تغير النهاية، فهي آلية مفتعلة وتعد خطيئة الكاتب الكبرى" روبرت ماكي

بما أن عالم الرواية عالم منطقي، وبما أن الصراع من أهم أركان الرواية الناجحة، يحدث أحياناً أن تصل الشخصيات الروائية "حتى في الأفلام" إلى مأزق كبير والاحتمال الأكبر هو هلاك الشخصية، إلا أن الكاتب لم يخطط لهلاكها في هذا الفصل؛ فيتدخل بطريقة مباشرة لينقذ البطل ويغير مسار الأحداث الحتمي وفقاً لعالم الرواية المنطقي، وهذا التدخل يكون من خلال مصادفة نادرة وغير مبررة منطقياً، هذا التدخل غير المنطقي يطلق عليه مصطلح "يد الكاتب" أو "الآلية المفتعلة" المشتقة من العبارة اللاتينية "Deus ex machina" المأخوذة من المسرح اليوناني والروماني الكلاسيكي، ومعناها الحرفي "إله من مـاكـينة". ويطلق على الأحداث الخارقة التي تظهر فجأة في القصة لتحل معضلة يواجهها أبطال القصة.

 يقول روبرت ماكي "الآلية المفتعلة لا تزيل فقط كل المعنى والعاطفة، بل تعد إهانة للمشاهدين"[4]، لكن السؤال هو لماذا تعتبر يد الكاتب إهانة للمشاهد؟ خصوصاً أن الرواية -كما أسلفنا- لا تمثل الواقع بل توازيه ولا تتطابق معه. السبب ربما هو أن القارئ يعشق الروايات لأنها تحقق له رغبة "الهروب من الواقع إلى منطق العالم الديكارتي" كما يقول أورهان باموق، لذلك عندما تلاحقه تلك الاعتباطية إلى عالم الرواية المنطقي فهذا يعني فقدان الرواية قيمتها الفنية لتصبح غير مستساغة من قبل القارئ.

ختاماً.. في الرواية تمتزج رؤية الكاتب للإنسان والحياة مع تجاربه الحياتية، وبين ثنايا هذا الخليط نجد أثراً لذكريات الكاتب وأحلامه، ولمواقفه الأخلاقية والسياسية أيضاً، ولعل وقوف الإنسان عاجزاً عن فصل مكونات هذا المزيج المعقد، واستحالة معرفة نسبة تأثير كل مكون من تلك المكونات على النص الروائي؛ هو سبب تعدد الرؤى والتفسيرات حول هذه العلاقة الشائكة بين الواقع والرواية.


[1] الحقيقة والكتابة-بثينة العيسى صفحة (9)
[2] قارئ السرد سجالات السرد والواقع- أ.د. حسن محمد النعمي
[3] الروائي الساذج والحساس- أورهان بموك صفحة (41-42)