نحو الثابت السوري الوحيد

2021.10.18 | 07:05 دمشق

791947966ead41ff934f3a13de13d2a8.jpg
+A
حجم الخط
-A

هناك استخدام مفرط وعلاقة خاصة بين نظام الأسد وعبارتي "مبادئ" و"ثوابت"؛ فالثوابت أو المبادئ الرفيعة التي تساهم بتطور وارتقاء سوريا وشعبها أسطوانة مكرورة في خطاب "النظام" حول سيادة سوريا وقضية فلسطين والديمقراطية والحرية والتقدم وغيرها. وثبُتَ بالدليل القاطع أن تلك "الثوابت والمبادئ" قابلة جداً للمساومة والتنازل؛ فنظام الأسد مستعدٌ أن يساوم على أرض سوريا وكرامتها وسيادتها، ويصافق على مقدراتها، ويتنازل لأي قوة إقليمية أو دولية؛ وهذا واضح للعيان، ولا يحتاج برهان؛ ولكن الثابت الوحيد حقيقةً وفعلاً هو أن أي موقف أو فعل أو تصرف للنظام يمكن أن يوحي أو يُفَسَّر أو يُعتَبَر تنازلاً لشعب سوريا هو خط أحمر. وهو الثابت الوحيد في حياة وممارسات منظومة الاستبداد؛ فحتى التنازل أو التسامح مع مَن يُشتبه بمخالفته أو اعتراضه على رأي أو توجه لنظام الأسد ممنوع. وأي تنازل من هذا النوع يُعتبَر خطيئة كبرى تشبه خطيئة {زارع الألغام} حيث خطيئته الأولى، هي الأخيرة، ونهايته المحتّمة.

طوال حياته كان هذا هو نهجه؛ وفي السنوات العشر الماضية تكرّس هذا الثابت الثابت والوحيد، الذي التزم به نظام الأسد أيما التزام. فلم تكن لديه مشكلة حتى بافتضاح علاقته مع إسرائيل التي كرّسها كمحرَّم، ولا بمغازلة أميركا وأوروبا وترجّيهما في العلن والخفاء، ولا في بيع سيادته لملالي طهران ولبوتين علنا؛ ولكن الجانب الوحيد، الذي يحتمل ويستوجب قبولاً للسوري وتنازلاً لسوريا عبر الدخول في عملية سياسية تستلزم شيئاً من التنازل للتفاوض يمكن أن توصل لحل ينقذ سوريا وشعبها (وربما تنقذه) علناً؛ بقي الثابت والمبدأ المحرّم. ففي أشد لحظات ضعفه، وعندما كانت ميليشيات حسن نصر الله وحرس الملالي الثوري تحميه، وأرض سوريا وسيادتها تستباح؛ كان الثابت الوحيد الذي لم يتنازل عنه والجهة الوحيدة التي لم يتنازل تجاه حقوقها وحياتها هي شعب سوريا؛ لأن مبدأه الأساس ومنهجيته تقول بأن ذلك هو الخطيئة؛ فإن حدثت ستكون الأولى والأخيرة.

هل يُرتجى من منظومة مريضة بهذا الشكل أي حل أو فرج أو خلاص لسوريا وشعبها من هذه المحنة؟

وبعد أن خنق الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية في الداخل السوري - وكي يعزّز هذا المبدأ المواجهاتي الثابت -  سعى هذا "النظام" إلى ابتزاز محيطه العربي مستغلاً خوف سلطات تشبهه من شعوبها واعتماديتها على الخارج في بقائها، ليكون حالة التوازن الاضطرارية، وهذا ما خدمه لاحقاً، ونشهد نتائجه الآن؛ فنادى بالقومية العربية وتحالَفَ مع الفرس؛ وساهم بتصنيع الإرهاب والإخلال بالأمن العالمي، وقدّم خدمات استخبارية كبيرة لبعض دول العالم؛ وعرف حاجة وريثة الاتحاد السوفييتي للعودة إلى المسرح الدولي، فجلب الروس لحمايته. وكل ذلك فقط ليبقى.

أمام هذا الواقع، هل يُرتجى من منظومة مريضة بهذا الشكل أي حل أو فرج أو خلاص لسوريا وشعبها من هذه المحنة؟ حقيقة، ما يزيد الطين بلة الآن، أنه في لحظاته الأصعب في مواجهة ثورة السوريين على استبداده وإجرامه؛ ووصوله إلى رهن أو بيع كل شيء، وبقائه كمجرد أداة لتنفيذ أغراض المحتل الإيراني والروسي، ومكابرته بـ "الانتصار" و"السيادة"، ومع حملة منظمة لإعادة تكريره بعد كل هذا الإجرام - تتمثل بمساعٍ روسية للحصول على جنى سياسي من فعلتها الشائنة - ومع انحسار أميركي تجاه القضية السورية، وتآمر أدوات عربية يحركها ضعفها الأزلي، ومع تسليط كل السهام القاتلة والتشويهية من العدو والصديق على معارضة مربكة معاناتها لا تُوصَف، وبوجود آلة إعلامية "غوبلزية" لتسويق المنظومة الاستبدادية؛ هل نتوقع من تلك المنظومة المارقة الانخراط في عملية سياسية قد تعيد الحياة إلى سوريا وشعبها؟

رغم كل ما تقدّم، هناك الثابت الذي لا تستطيع أيّ من القضايا التي ذُكِرت أعلاه أن تتجاوزه، ألا وهو ذلك السوري الذي ثار على ثوابت هذه المنظومة الاستبدادية. فما من قوة في الدنيا تستطيع أن تعيد سوريا وأهلها إلى ما قبل ٢٠١١. لقد تكشّف سر منظومة الاستبداد؛ وملفات إجرامها لا يمحوها زمن؛ ولا تستطيع قوة مهما عظُمَت أن تزيحها أو تحملها؛ ولا يمكن للقرارات والقوانين التي صدرت أن تُمحى بجرة قلم. والأهم من كل ذلك هناك إرادة شعب حيّ مبدع خرج للحرية رغم المستحيل القائم. إنه الشعب الذي أدرك الثابت لدى منظومة الاستبداد، ووقف على حقيقة المتدخلين بقضيته، وعرف معنى التخلي والتيئيس، وأدرك أن الوطن الذي ليس له غيره في حالة احتضار على كل الصعد- وقليل من يبالي؛ فلا بد أن يقول كلمته.

بعد كل تلك الخيبات، لا بد أن نشهد وقفة شجاعة للتاريخ تدين هذه المنظومة الاستبدادية، التي تحول دون عودة سوريا إلى الحياة

ومن هنا، ورغم ندرتها، لا تزال محاولات إعادة سوريا إلى الحياة تفتقد عنصرها الجوهري ألا وهو الدور الفاعل المستقل الحر لهذا السوري صاحب الحق في استعادة بلده وحياته ومستقبله. فالكل يُجْمِع والقرارات الدولية تؤكد أن الحل لن يكون إلا "سورياً- سورياً". من هنا نرى المبعوث الدولي يصرّح باحثاً عن وسيلة ضغط ضرورية لتطبيق كامل للقرار 2254 وإنجاز دستور حضاري يحصن مبدأ تداول السلطة ويتوافق وقيم المواطنة والعدالة وحقوق الإنسان وتحقيق تقدم في ملف المعتقلين والمفقودين؛ ويشكل رسالة للسوريين وللعالم بأن الحل والسلام ممكن في سوريا. وأهم امتحان يحصل اليوم في جنيف؛ فبعد كل تلك الخيبات، لا بد أن نشهد وقفة شجاعة للتاريخ تدين هذه المنظومة الاستبدادية، التي تحول دون عودة سوريا إلى الحياة، وتوقف سهولة أو إمكانية اتهام المشاركين بشهادة زور يتعكّز عليها المجرمون. وقفة تؤسس لانطلاقة شعبية جديدة مصممة على استعادة سوريا والخلاص ممن يحول دون ذلك. ومن هنا، لن يكون الثابت السوري الوحيد إلا التطبيق الكامل للقرار 2254. ومن هنا أيضاً، مَن لا يدرك أو يتجاهل أو يتغافل أو يتآمر من المهرولين، سيعرف عاجلاً أم آجلا أن الشيء الوحيد الذي سيجنيه في اقترابه من هذه المنظومة ليس إلا العار والمخدرات والإرهاب.